الشرق الأوسط… ماذا وإلى أين؟

10

 

 

الجزء السادس والثلاثون:

 

لماذا أصبحت أمريكا المشكلة والحل في آنٍ واحد؟

 

منذ عقود، يعيش الشرق الأوسط في معادلةٍ سياسية لا تشبه أي منطقة أخرى في العالم: معادلةٌ تتداخل فيها القوة الأمريكية مع الصراع الإقليمي، ويتقاطع فيها النفوذ الدولي مع هشاشة الداخل، بينما تتغيّر الخرائط بدون أن تتغيّر القواعد. كل حربٍ تُفتح بإشارة أمريكية… وكل تسويةٍ تُقفل بتوقيع أمريكي… أو بتردد أمريكي.

وفي قلب هذا المشهد الذي يزداد تعقيداً، يبرز سؤالٌ بات جزءاً ثابتاً من الوعي السياسي العربي: لماذا تبدو الولايات المتحدة هي المشكلة التي أشعلت أزمات المنطقة، وهي ذاتها الحل الذي ينتظره الجميع للخروج منها؟

الإجابة لا تكمن في عاطفة أو موقف، بل في قراءة موضوعية لمعادلة صنعتها واشنطن على مدى نصف قرن، ثم وجدت نفسها اليوم في اختبار أمام صلابة ما أنتجته أيديها.

من يُراقب مسار الشرق الأوسط منذ العام 1979 يلاحظ أن واشنطن لم تعد مجرد لاعب رئيسي؛ لقد تحوّلت إلى “نظام داخلي” يحكم حركة الفاعلين الإقليميين ويتحكم في اتجاهات التوازنات الكبرى. فهي التي منحت إيران مساحة نفوذ تتجاوز حجمها الطبيعي، وهي ذاتها التي تحشد اليوم لتحجيم هذا النفوذ. وهي التي صنعت فراغات كبرى في العراق وسوريا ولبنان، وهي أيضاً التي تعود لتملأ هذه الفراغات أو تمنع الآخرين من ملئها.

أمريكا صنعت نظاماً يقوم على التوازنات الهشّة: لا استقرار كامل يسمح للدول بالتحرر من الحاجة إليها، ولا فوضى شاملة تُسقط قدرتها على التحكم.

هذه الهندسة السياسية أنتجت شرقاً أوسطياً معلّقاً: إذا تقدمت واشنطن تعطلت مصالح جهات، وإذا تراجعت انفجرت أخرى، وإذا ترددت عمّ الجمود. ولأنها لوّحت بالقوة أكثر مما استخدمتها، وحاربت أحياناً بدون رؤية، وسحبت قواتها حين كان الفراغ أخطر من البقاء، فإن أزمات المنطقة تضخّمت، وتحوّلت واشنطن تلقائياً إلى جزء من المشكلة.

لكنها، في الوقت ذاته، تبقى الحل الوحيد الممكن بالنسبة للدول الكبرى في المنطقة. لا مبادرة عربية تنجح دون توافق معها، ولا تفاهم إقليمي يكتمل من دون موافقتها، ولا مشروع استقرار يمكن أن يتجاوزها.

حتى القوى “المتمردة” على قرارها تدرك أن صداماً غير محسوب معها قد يكون مكلفاً حدّ الانتحار السياسي أو العسكري.

ومع ذلك، فإن التغيرات الدولية من صعود الصين اقتصادياً إلى عودة روسيا ميدانياً تضغط على حدود القدرة الأمريكية. فواشنطن تخشى من تغيير المعادلة التي رسمتها، وتخشى أكثر من تركها تنهار. ولهذا تبقي الأزمات مفتوحة، وتديرها بدلاً من حلّها، وتستخدم “الزمن” كأداة سياسية تمنع الآخرين من ملء الفراغ .

إن المعضلة التي يعيشها الشرق الأوسط اليوم لا تتعلق فقط بحدود النفوذ الأمريكي، بل بحدود النظام الدولي نفسه. فالولايات المتحدة بنت معادلة إقليمية تضمن لها السيطرة وتمنع الآخرين من التقدم، لكنها لم تعد قادرة على حماية هذه المعادلة كما كانت، ولا مستعدة لخلق بديل عنها. وهنا يظهر التناقض الخطير:

أمريكا هي التي صنعت الأزمة البنيوية في الشرق الأوسط… وهي الوحيدة القادرة على تفكيكها، لكنها ليست مستعدة لدفع ثمن التفكيك.

وهذا ما يدخل المنطقة في لحظة انتقالية حساسة: إذا بقيت واشنطن مترددة، فإن القوى الدولية ستتقدم لملء الفجوة، وإذا حسمت خياراتها فقد تفتح الباب أمام نظام إقليمي جديد، وإذا واصلت إدارة الأزمات بدل حلّها فإن الانفجار لن يكون حادثاً طارئاً… بل نتيجة طبيعية.

الشرق الأوسط اليوم عند حافة فاصلة: إما أن تقود أمريكا إعادة تشكيله، أو تجد نفسها أمام شرق أوسط لا يشبه ما رسمته ولا يمكنها التحكم به .

 

 

يتبع غدا الجزء السابع والثلاثون : ،”العراق يغادر الطائفية.. ويدخل زمن الانقسام الوطني”

التعليقات معطلة.