الجزء الخامس والأربعون:
بغياب الردع العربي… إسرائيل ستصطدم حتمًا بالردع الدولي حين تُمسّ المصالح الكبرى
في الشرق الأوسط، لم يعد ميزان القوى يُقاس فقط بعدد الصواريخ، ولا بعدد الجيوش، ولا بحدة الخطاب السياسي. بل صار يُقاس قبل كل شيء بتأثير السلوك الإقليمي على المصالح الدولية الكبرى. وفي ظل هذا التحول العميق، تُواجه إسرائيل اليوم حقيقة جديدة: غياب الردع العربي لا يعني أنّ يدها مطلقة، بل يعني أنها ستواجه مباشرة الردع الدولي حين تقترب من خطوط المصالح العالمية.
حرية الحركة الإسرائيلية… حرية مقيّدة بالقلق
صحيح أنّ إسرائيل تتحرك اليوم في الإقليم بجرأة، بل أحيانًا باندفاع، مستفيدة من:
تفكك النظام العربي،
ضعف القرار الموحد،
غياب الردع السياسي والعسكري الحقيقي.
لكن هذه الحرية ليست نعمة كاملة… بل حرية مقلقة. فالإسرائيليون يعرفون أن سقفهم الحقيقي ليس العرب الذين تفككت جبهاتهم بل القوى الكبرى التي تنظر للمنطقة باعتبارها شريانًا للطاقة، وممرًا للتجارة، ومسرحًا حيويًا لمعادلات الأمن العالمي.
حين يقترب الخطر من مصالح الكبار… ينقلب المشهد
تاريخ الشرق الأوسط نفسه يُثبت ذلك. فكلما اقتربت الأحداث من مصالح حيوية للقوى الكبرى، حدث الآتي:
تغيير فوري في قواعد اللعبة،
تدخل مباشر أو غير مباشر،
ضغط سياسي واقتصادي وأمني على الأطراف المتسببة بالاضطراب بما في ذلك إسرائيل نفسها.
وليس بعيدًا أن نرى كيف تعامل الغرب سابقًا حين شعرت مصالحه بالتهديد:
حين اقتربت الحروب من خطوط النفط، تدخّل الغرب بلا تردد.
حين مست النزاعات ممرات الملاحة، تحركت الأساطيل.
حين هددت أي قوة إقليمية التوازن الاستراتيجي، فُرضت عليها قيود صارمة.
فكيف إذا كان الطرف هو إسرائيل، التي ترتبط مصالحها بتحالفات معقدة لا يتحمّل النظام الدولي أن تنفلت من عقالها؟
الردع الدولي… البديل القسري في غياب الردع العربي
في غياب القوة العربية الموحدة، ظهر نمط جديد: الردع الدولي بدل الردع الإقليمي.
فالمجتمع الدولي لا يتحرك حبًا بالعرب، بل حمايةً لمصالحه. وإسرائيل، مهما كانت قوتها العسكرية، لا تستطيع أن تتحدى المصالح الدولية دون أن تدفع الثمن:
إن هددت تدفق الطاقة ستُردع.
إن أثارت نزاعًا يعطل الملاحة ستُردع .
إن دفعت المنطقة إلى حرب شاملة تُربك أوروبا أو الولايات المتحدة أو الصين — ستُردع.
هذا ليس تحليلًا نظريًا؛ هذا هو جوهر النظام الدولي: لا أحد أكبر من مصالح القوى الكبرى.
المعضلة الإسرائيلية: قوة بلا غطاء
تهاجم إسرائيل حيث لا تجد ردًا عربيًا… لكنها تتوقف فورًا حين يلوح في الأفق الغضب الدولي.
ولهذا تبدو إسرائيل أمام مأزق واضح:
قوتها العسكرية بلا حدود،
لكن حدودها السياسية مرسومة بدقة من الخارج.
وكلما انخفض مستوى الردع العربي، ارتفعت تكلفة تجاوز حدود المصالح الدولية، لأن تل أبيب تفقد الطرف الإقليمي الذي كان يوازنها ويمنعها من الاصطدام بالنظام العالمي مباشرة.
اللحظة الفاصلة
نحن اليوم في لحظة تُعيد تشكيل قواعد الشرق الأوسط:
إما أن يستعيد العرب جزءًا من الردع الذاتي، فيتحولوا من “عامل ردع غائب” إلى “عامل توازن حاضر”،
أو تبقى إسرائيل تحت رحمة الردع الدولي… الذي لا يرحم حين تتضرر مصالح الكبار.
وفي الحالتين، حقيقة واحدة ثابتة:
إسرائيل لن تستطيع الاستمرار في توسيع نفوذها بلا حساب… لأن من يمنحها حرية الحركة هو نفسه القادر على سحبها في لحظة واحدة حين تتقاطع خطواتها مع خطوط النار الدولية .
يتبع السبت الجزء السادس والاربعون: “لماذا تركز واشنطن على أطراف النفوذ الإيراني… ولا تستهدف الرأس”؟

