الجزء السادس والأربعون:
لماذا تضرب واشنطن أطراف النفوذ الإيراني… ولا تضع الرأس تحت النار؟
في قلب التحولات العاصفة التي تعصف بالشرق الأوسط، حيث الخرائط تُعاد رسمها والأنظمة تُنقَّح وتوازنات القوى تتبدّل، يخرج سؤال ظلّ مختبئًا في كواليس السياسة لسنوات طويلة، لكنه اليوم يعود إلى الواجهة بحدّة غير مسبوقة:
لماذا تستهدف واشنطن أذرع إيران من بغداد إلى بيروت… لكنها لا تضع “الرأس” في طهران تحت النار المباشرة؟ ولماذا تبدو كل ضربة، كل عقوبة، كل خطوة… موجّهة إلى الأطراف لا إلى مركز المشروع الإيراني؟
الجواب أوسع من الشرق الأوسط. أعمق من الملف النووي. وأدهى من مجرّد صراع نفوذ. إنّه إعادة تشكيل كاملة للمعادلة التي وُلدت سنة 1979… المعادلة التي انتهت وظيفتها، وحان الآن تفكيكها .
أولاً: واشنطن لا تضرب الرأس… لأنها أعادت تعريف “العدو” و“الوظيفة”
لأربعة عقود، لم تكن إيران عدوّ أمريكا بالمعنى العسكري المباشر. كانت مشروعًا وظيفيًا يخدم خمسة أهداف استراتيجية:
موازنة القوة العربية بعد سقوط الشاه.
تفكيك المشرق عبر خطوط طائفية.
توفير ذريعة دائمة للبقاء العسكري في المنطقة.
دفع الخليج للتحالف الأمني مع واشنطن.
تسريع مسار التطبيع مع إسرائيل.
لم تكن إيران “تهديدًا” بل “فزاعة” مدروسة. ولهذا اكتفت أمريكا بتقليم الأذرع كلما تجاوزت الحدود… دون أن تقترب من الرأس الذي يخدم الوظيفة .
ثانياً: لماذا تغيّر المشهد الآن؟
لأن وظيفة إيران انتهت بعد 2018**
بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي سنة 2018، دخلت إيران مرحلة جديدة: لم تعد ورقة مفيدة، بل عبئًا جيوسياسيًا لا يصلح لزمن التنافس مع الصين وروسيا.
إيران اليوم في أضعف نقطة منذ 1979:
اقتصاد منهار.
صراعات داخل النظام.
نفوذ يتراجع في العراق وسوريا ولبنان.
حزب الله تحت ضغط غير مسبوق.
المشروع النووي تلقّى سلسلة ضربات موجعة.
وفنزويلا، البنك الأسود لطهران أصبحت هدفًا مباشرًا لواشنطن.
معنى ذلك: الأطراف تتساقط… والرأس أصبح محاصَرًا ينتظر اللحظة المناسبة.
ثالثاً: من بغداد إلى كراكاس… الأطراف أوّلًا
لم تعد واشنطن تكتفي بضرب:
فصائل عراقية،
وحزب الله في لبنان واليمن.
بل توسّعت فجأة إلى فنزويلا، واعتبرتها “موطئ قدم للحرس الثوري”. هذه ليست معلومة استخباراتية… بل إعلان رسمي عن خريطة جديدة:
أن النفوذ الإيراني لم يعد شرق أوسطيًا فقط، بل ممتدًا إلى القارة التي تعتبرها واشنطن خطًا أحمر منذ مبدأ مونرو.
وعندما يلوّح ترامب بإسقاط نظام كاراكاس، فهو لا يستهدف مادورو كشخص… بل يستهدف أبعد أطراف رأس الأخطبوط الإيراني.
هذه هي المدرسة الأمريكية القديمة: اضرب الأطراف… يسقط الرأس وحده.
كما فعلت في:
أفغانستان مع السوفييت،
بنما قبل إسقاط نورييغا،
ويوغسلافيا قبل سقوط ميلوسوفيتش.
رابعاً: إسقاط صدام في 2003… وإبقاء إيران حتى اليوم: المعادلة التي تفسّر كل شيء
لماذا أسقطت واشنطن صدام بكل قوتها… ولم تمسّ النظام الإيراني؟
لأن:
صدام كان دولة قوية مكتفية، خارج السيطرة.
إيران كانت مشروعًا مفتوحًا يمكن التحكم به، وأداة لإدارة الفوضى.
إسقاط صدام فتح باب التوازنات الطائفية اللازمة لإعادة رسم المنطقة. أما الإبقاء على إيران فكان ضروريًا لإدامة المعادلة.
لكن اليوم… تلك المعادلة سقطت. والشرق الأوسط الجديد الذي تخطط له واشنطن يقوم على محور جديد:
أميركا + إسرائيل + الخليج + مصر + الأردن + العراق الجديد
وهذا المحور لا يمكن أن يولد ما دامت إيران تحتفظ بشبكتها الإقليمية. لذلك بدأ التفكيك… من الأطراف إلى المركز.
خامساً: لماذا لا تضرب واشنطن “الرأس” مباشرة؟
الضربة المباشرة تعني:
حربًا إقليمية شاملة.
تدخل روسيا والصين.
هجمات على إسرائيل والخليج.
فوضى نووية.
سقوط إيران في يد جماعات غير محسوبة.
أما استراتيجية ضرب الأطراف فتعني:
إضعاف إيران بلا حرب.
عزلها بلا فوضى.
تجفيف تمويلها بلا مواجهة مباشرة.
إسقاط مشروعها دون أن تسقط الدولة نفسها.
دفع الشعب الإيراني إلى لحظة الانفجار الذاتي.
هذا هو السيناريو المثالي لواشنطن.
سادساً: المرحلة الحالية… ليست إدارة صراع
بل إدارة احتضار .
المؤشرات واضحة:
لبنان ينزلق من يد حزب الله .
العراق يبتعد عن طهران.
سوريا تتقاسمها واشنطن وموسكو وإسرائيل وتركيا.
اليمن خرج من الحسابات الإيرانية.
غزة ضُرب عمودها الفقري.
وفنزويلا ، آخر شريان مالي أصبحت هدفًا مباشرًا.
هذه ليست أحداثًا معزولة… إنها خريطة خنق شاملة.
الخلاصة: لماذا تستهدف واشنطن الأطراف؟
لأن ضرب الأطراف يعني:
خنق الرأس بلا حرب.
تجفيف مصادر النفوذ.
إسقاط الوكلاء واحدًا تلو الآخر.
ترك النظام الإيراني معزولاً حتى ينهار من الداخل.
إنّها ليست حربًا لإسقاط إيران… بل حرب لإنهاء مشروع 1979 نفسه — المشروع الذي انتهت وظيفته وبدأت تصفيته.
المرحلة الأخطر: ما قبل انهيار المعادلة القديمة… وما قبل ولادة الشرق الأوسط الجديد
نحن الآن في اللحظة الفاصلة بين زمنين:
زمن انتهى منذ أن فقدت إيران قيمتها الوظيفية.
وزمن جديد تُرسم حدوده من بغداد ودمشق وبيروت… إلى طهران وكاراكاس.
واشنطن لا تريد إطلاق رصاصة على الرأس. تريد أن يسقط الرأس بثقله… بعد أن قُطعت عنه كل الأطراف.
وهكذا تُنهي اللعبة القديمة… وتكتب قواعد اللعبة الجديدة.
يتبع غدا الجزء السابع والاربعون: “مَن المستفيد الأكبر من انهيار الدور الإيراني؟وما شكل النظام الإقليمي القادم؟”

