الجزء الخامس:
الشرق الأوسط بين الحروب المؤجلة والسلام المرهون بالقرار الدولي
يعيش الشرق الأوسط اليوم لحظة تاريخية فاصلة، تتجاوز حدود الجغرافيا إلى عمق التحوّلات العالمية التي تعيد رسم ملامح النظام الدولي نفسه. فالحروب لم تنتهِ، بل جرى تعليقها على خيطٍ رفيع من التفاهمات المؤقتة، والسلام لم يولد بعد، بل أصبح رهينة حسابات القوى الكبرى، التي تدير التوازن بين النار والهدنة وفق مصالحها لا وفق معاناة الشعوب.
شرق أوسط بلا يقين
لم يعد الشرق الأوسط هو ذاته الذي عرفناه قبل عقدين. الخرائط السياسية تُعاد رسمها على وقع التفاهمات الأمنية والاقتصادية، لا على أسس الصراع العقائدي أو الشعارات القومية القديمة. فالعالم لم يعد يحتمل حروبًا مفتوحة، لكنه في الوقت ذاته لا يمنح سلامًا مجانيًا. كل أزمة في المنطقة – من اليمن إلى ليبيا، ومن لبنان إلى السودان – تمثل اليوم ساحة اختبار لإمكانية تحقيق الاستقرار تحت المظلة الدولية، لا بإرادة الأطراف المحلية وحدها.
بين الحرب والسلام… مساحة رمادية
تعيش المنطقة في منطقة رمادية بين الحرب والسلام:
في الخليج، تُدار الصراعات بصمتٍ اقتصادي، حيث التنافس على النفوذ الطاقي والبحري يلبس ثوب الشراكات الاستثمارية.
في المشرق، يُعاد ترتيب النفوذ بين الدول المتعبة بالحروب الطويلة، بينما تُبنى تفاهمات جديدة تحت عناوين “إعادة الإعمار” و“التحالفات الأمنية”.
في شمال أفريقيا، يتحرك المشهد السياسي على وقع سباق دولي بين أوروبا وروسيا وتركيا، كلٌ يبحث عن موطئ قدم في فضاءٍ يختزن ثروات الطاقة والطرق الاستراتيجية.
الحروب لم تُلغَ من المعادلة، بل صارت أدوات تفاوضٍ مؤجلة تُستخدم عند الحاجة، فيما السلام بات مشروطًا بإرادة دولية تُحدّد من يستحق الاستقرار ومن يُعاقب بالعزلة أو الفوضى.
ملامح نظام جديد
ما يتشكّل في المنطقة ليس مجرد تفاهمات جزئية، بل إرهاصات لنظام شرق أوسطي جديد يقوم على ثلاثة مرتكزات:
القرار الدولي كحَكم نهائي: فالتوازنات لم تعد تُصاغ في العواصم المحلية، بل في العواصم الكبرى التي تمسك بخيوط الطاقة والاقتصاد والأمن.
الدولة الوطنية كإطارٍ للشرعية: بعد عقود من تمدد الأيديولوجيات والمليشيات، بدأت العودة إلى مفهوم الدولة باعتبارها الضامن الوحيد للاستقرار.
التكامل الإقليمي المشروط بالمصالح المشتركة: تحالفات جديدة تُبنى على الاقتصاد والأمن لا على الانتماء القومي أو المذهبي، في محاولة لخلق شبكات مصالح تحمي السلام عبر الترابط لا التنافر.
العراق وسوريا وفلسطين… في قلب المعادلة
رغم أن المشهد الإقليمي أوسع من حدود هذه الدول، إلا أن موقعها يبقى محوريًا:
العراق يبرز كمحور توازن، حيث تتقاطع المصالح الدولية والإقليمية، ويُعاد اختبار قدرة الدولة على النهوض من ركام التبعية.
سوريا ما زالت ساحة مساومات دولية لإعادة هندسة الدولة وفق توازنات ما بعد الحرب.
فلسطين تبقى جرحًا مفتوحًا ومختبرًا لكل وعود السلام، إذ تقف بين واقع الاحتلال وأحلام التسوية التي ترسمها القوى العظمى لا الشعوب.
نحو شرق أوسطٍ بلا أوهام
الشرق الأوسط الجديد لن يكون نسخة من الماضي. إنه شرقٌ أوسطٌ تحكمه لغة المصالح، لا لغة الشعارات. الحروب فيه ليست قدراً، والسلام فيه ليس صدقة؛ كلاهما يُدار وفق توازنٍ دقيق بين من يملك القوة ومن يملك القرار. إنه زمن الواقعية السياسية، حيث الدول التي تمتلك مشروعًا وقرارًا سياديًا ستبقى، وتلك التي تراهن على الشعارات ستُستبدل.
الشرق الأوسط في طور إعادة التأسيس:
تُعاد فيه صياغة الهويات الوطنية.
وتُضبط فيه بوصلة التحالفات وفق معيار “الجدوى والمصلحة”.
بينما تتراجع الأيديولوجيات، وتُولد مقاربة جديدة للأمن تقوم على الشراكة لا العداء.
إننا أمام شرق أوسطٍ يتخلّى عن رومانسيات الثورة والوحدة، ويتجه نحو براغماتية المصالح والتفاهمات الكبرى، شرقٍ تصنعه موازين القوى لا الأحلام، وتحدده خرائط الطاقة لا خرائط العقيدة.
(يتبع غدًا الجزء السادس: إسرائيل… من انتصار السلاح إلى أزمة الوجود)

