الشرق الأوسط… ماذا وإلى أين؟

13

 

 

الجزء الثامن:

 

 تصحيح المعادلة القديمة… ولماذا توقفت الحرب على إيران؟

 

لماذا لم تُضرب إيران بعد؟ سؤالٌ يتردد في كواليس السياسة وأروقة القرار منذ سنوات، يختزن خلفه أكثر من مجرد حسابات عسكرية. فالمسألة ليست عن توقيت الضربة، بل عن توقيت ولادة المعادلة الجديدة التي ستعيد رسم الشرق الأوسط، بعد أكثر من أربعة عقود حكمتها معادلة ما بعد 1979، حيث كانت طهران قطبًا ثابتًا في توازنات متغيّرة.

منذ الثورة الإيرانية، تكرّس دور طهران بوصفها “اللاعب المزعج والمفيد” في آنٍ واحد. عدوٌّ معلن للغرب وإسرائيل، وشريكٌ خفيّ في حفظ التوازنات التي سمحت للولايات المتحدة بإدارة المنطقة من وراء الستار. لكن تلك المعادلة بدأت تتآكل. فإيران التي كانت تصدّر مشروعها الإقليمي بثقةٍ منذ مطلع الألفية، تواجه اليوم تآكلًا داخليًا غير مسبوق، وتراجعًا في قدرتها على ضبط نفوذها الخارجي، مع تصاعد السخط الشعبي، والضغوط الاقتصادية، والانكشاف أمام التحولات الدولية الكبرى.

ورغم ذلك، لا تزال الضربة الكبرى مؤجّلة. فإسقاط نظام بهذه البنية المتشعبة يحتاج إلى بديل جاهز، وهذا البديل لم يكتمل بعد. فإيران ليست نظامًا فحسب، بل شبكة نفوذ ممتدة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتداخل فيها المصالح الإقليمية والدولية. أي خلخلة مفاجئة فيها قد تفتح أبواب فوضى لا أحد يملك مفاتيحها. لهذا، يجري العمل بصمت على تفكيك المعادلة القديمة تدريجيًا، من خلال إنهاك إيران من الداخل، وتقليم أذرعها في الخارج، حتى تنضج الظروف لإسقاطها دون أن ينهار الإقليم معها.

الولايات المتحدة وشركاؤها يدركون أن المعادلة القديمة لا تزال تعمل جزئيًا، إذ لم تتبدل بعد شبكة المصالح التي قامت عليها: أسواق النفط، وأمن الخليج، وملفات الطاقة النووية، والتوازن في العراق وسوريا. ولذلك، فإن أي ضربة عسكرية كبرى ضد إيران تعني إعلان نهاية تلك الشبكة، والبدء ببناء معادلة جديدة. ولأن المعادلات لا تُصنع في الفراغ، فإن القوى الكبرى تعمل حاليًا على إعادة هندسة التحالفات في المنطقة، تمهيدًا لمرحلة ما بعد طهران.

التحولات الجارية تشير إلى انكماش الدور الإيراني مقابل صعود محور عربي – إسرائيلي مدعوم غربيًا، يهدف إلى ملء الفراغ المقبل وضمان أمن الطاقة والممرات البحرية، مع إعادة تموضع العراق في مركز التوازن الإقليمي كجسر بين الشرق والغرب. وفي المقابل، تبدو روسيا منشغلة بالحفاظ على ما تبقى من نفوذها في سوريا، بينما تتابع الصين المشهد ببراغماتية اقتصادية، تترك الآخرين يتصارعون على الجغرافيا لتستفيد هي من الاقتصاد.

هذا يعني أن الحرب ضد إيران، حين تقع، لن تكون حربًا على دولة فحسب، بل على نظامٍ إقليميٍ كامل ومرحلةٍ تاريخيةٍ انتهت صلاحيتها. ستكون الضربة بمثابة إعلان رسمي عن ولادة الشرق الأوسط الجديد، حيث تتوزع الأدوار على أسس جديدة: أمن عربي مشترك، تعاون اقتصادي عابر للحدود، واحتواء مدروس لبقايا النفوذ الإيراني، ضمن إطار توازن جديد يراعي مصالح القوى الكبرى لكنه يفتح الباب أمام تحالفات أكثر استقرارًا.

إذن، الحرب لم تُلغَ، لكنها مؤجلة حتى تنضج البدائل وتُغلق ملفات التفاهمات. فالمعادلات لا تسقط بالمدافع فقط، بل حين يتبدل نسيج المصالح الذي قامت عليه. وها نحن نقترب من لحظة التحول الحاسمة: لحظة ما بعد إيران، حيث سيتشكل شرق أوسط آخر، مختلف في خرائطه وأدواره وحساباته.

 

(يتبع غدا : نهاية قوى الفوضى وحان الآن زمن الاستقرار) والتنمية

التعليقات معطلة.