«الشرق الأوسط» من داخل الخرطوم… سودانيون يُعيدون للحياة نبضها وحيويتها

2

 

 

سلطات العاصمة تبذل جهوداً لاستعادة الخدمات الأساسية في العاصمة السودانية

 

وسط العاصمة الخرطوم عاد إلى الحياة فيما تبحث السلطات سبل إصلاح المرافق الاستراتيجية (الشرق الأوسط)

 

الخرطوم: بهرام عبد المنعم

 

رغم الخسائر والخراب والسماء المُلبدة بغيوم المسيّرات الانتحارية، وتفشي الأوبئة والأمراض ونقص الخدمات الضرورية في الكهرباء والمياه والدواء يعود الآلاف من النازحين إلى العاصمة السودانية الخرطوم، يزيلون الرُّكام والأنقاض ويعيدون تأهيل منازلهم ويفتحون باباً للأمل والتمسك بالأرض ومزاولة حياتهم اليومية بحلوها ومُرها.

 

في منطقة الكدرو، الضاحية الشمالية لمدينة الخرطوم بحري التي تبعد نحو 18 كيلومتراً عن العاصمة، يقف المواطن الطيب موسى، داخل محله التجاري، الذي أعاد ترميمه وتأهيله بعد فترة نزوح طويلة منذ اندلاع المواجهات المسلحة بين الجيش السوداني، و«قوات الدعم السريع»، منتصف أبريل (نيسان) 2023.

 

الطيب موسى تجول نازحاً بين مدن السودان وأكد أن «منزلك المُحطم أفضل من بيوت الإيجار في مدن النزوح» (الشرق الأوسط)

 

يقول موسى، وهو رجل أربعيني لـ«الشرق الأوسط»: «منذ الطلقة الأولى للحرب نزحت إلى مدن سنار ثم الدمازين (جنوب شرق) نحو العامين، ثم إلى القضارف، وكسلا (شرق)، وعطبرة (شمال). وقبل ثلاثة أشهر رجعت إلى مدينة بحري. كانت فترة صعبة وقاسية». ويضيف: «كافحت طيلة الفترة الماضية من أجل توفير لقمة العيش… النزوح تجربة مريرة، لكننا واجهنا الصعاب بصلابة وروح قتالية». وتابع بالقول: «بعد العودة، نواجه حالياً خطر المسيرات الانتحارية والاستراتيجية، ونقص الكهرباء والمياه والدواء، لكن المنزل حيث نشأنا وترعرعنا حتى لو كان مُحطماً ومدمراً أفضل من بيوت للإيجار في مدن النزوح».

 

الصبر والعزيمة

بسبب الدانات والرصاص الطائش في الأيام الأولى للحرب، اضطرت المواطنة إيهاب أحمد، إلى ترك منزلها بحي أم بدة بمدينة أم درمان إلى محلية جبل أولياء جنوب العاصمة الخرطوم بحثاً عن الأمن والأمان.

 

إيهاب أحمد عادت إلى الخرطوم لتبدأ رحلتها الجديدة من الصفر (الشرق الأوسط)

 

تقول إيهاب في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أدير محلاً صغيراً للطباعة وتصوير المستندات بسوق الشهداء بمدينة أم درمان، لكنني تركته مُجبرة بسبب الحرب وتعرَّض للسرقة والحرق والدمار». وأضافت بالقول: «عندما وصلت المواجهات المسلحة إلى محلية جبل أولياء، غادرنا المنطقة واتجهنا إلى شمال أم درمان مرة أخرى، وعند استيلاء الجيش السوداني على العاصمة الخرطوم، واستباب الأمن، رجعت مرة أخرى إلى متجري، وبدأت من الصفر بشراء ماكينة طباعة واحدة، وواجهت كل الصعوبات والتحديات». وتابعت: «عدنا وسط الخراب والدمار بملء إرادتنا لنشتري حياة جديدة. كل شيء سيئ وصعب للغاية لكن قلوبنا وذكرياتنا هنا».

 

مواجهة الصعوبات

يقول المواطن عبد الباقي إسماعيل 50 عاماً، الذي يدير محلاً تجارياً للملابس الجاهزة: «في الأشهر الأولى للحرب غادرت الخرطوم ونزحت إلى مدينة كوستي بولاية النيل الأبيض (جنوب)، لكنني رجعت مؤخراً إلى شارع الدكاترة بمدينة أم درمان لمزاولة نشاطي الذي تعطل بسبب العنف والقتال».

 

عبد الباقي إسماعيل عاد في مواجهة نقص الخدمات وانهيار المستشفيات وتفشي الأوبئة (الشرق الأوسط)

 

وأضاف إسماعيل في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «عملت في مهنة بيع الملابس الجاهزة لأكثر من 30 عاماً. قدرنا أن نستمر في العمل رغم الصعوبات الكبيرة، وأكثر من 20 محلاً تجارياً زاول نشاطه في المنطقة». وتابع: «أكبر مشكلة واجهتنا حالياً تتمثل في نقص الخدمات الضرورية وانهيار المستشفيات والمراكز الصحية وتفشي الأوبئة والأمراض وغلاء الأدوية وارتفاع تكاليف المعيشة».

 

تقارير دولية

في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2025، قالت «المنظمة الدولية للهجرة» إن ما يُقدَّر بنحو 2.7 مليون شخص من بين أكثر من 3.77 مليون شخص نزحوا من الخرطوم، قد يعودون إليها، رغم ظروف الحياة القاهرة ونقص الخدمات.

 

باتت الحياة تنبض في العاصمة تدريجياً في محاولة لهزيمة الواقع المرير (الشرق الأوسط)

 

وفي جميع أنحاء السودان، وفق المنظمة الدولية، سجل تقرير للمنظمة عودة 2.6 مليون شخص إلى مناطقهم الأصلية خلال الفترة نفسها، نصفهم تقريباً من الأطفال. وشمل ذلك أكثر من مليوني شخص من النازحين داخلياً، و523844 من الخارج، معظمهم من مصر وجنوب السودان وليبيا.

 

تطمينات حكومية

وكشف وزير الشؤون الاجتماعية بولاية الخرطوم، صديق فريني، عن جهود مبذولة من الحكومة لمواجهة متطلبات الكثافة العالية للعائدين إلى منازلهم وتوفير الخدمات الضرورية من المياه والكهرباء والدواء وبسط الأمن.

 

وزير الشؤون الاجتماعية بولاية الخرطوم صديق فريني متحدثا للصحيفة عن قضايا إعادة تاهيل المرافق (الشرق الأوسط)

 

وأشار فريني في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى إنشاء نحو 87 مركز إيواء في الخرطوم لاستضافة 15 ألف نازح من ولايات دارفور، و12 ألفاً من ولايات شمال وغرب وجنوب كردفان والتعامل مع احتياجاتهم ومتطلباتهم بكل مسؤولية.

 

وأضاف بالقول: «أهم القرارات تمثلت في تكليف عضو مجلس السيادة إبراهيم جابر رئاسة اللجنة العليا لتهيئة البيئة المناسبة لعودة المواطنين إلى ولاية الخرطوم، وهذه اللجنة جاءت وفي يدها سلطات واسعة لتلبية متطلبات الحياة للمواطنين في ولاية الخرطوم، وعلى رأسها إعادة محطات المياه والتيار الكهربائي إلى الأحياء المختلفة ونظافة آثار ومخلفات الحرب، وهي بكثافة كبيرة تفوق التي شاهدناها في الأفلام السينمائية».

 

المسيرات تهدد العائدين

يقول فريني: «الآن هناك استهداف لولاية الخرطوم، كما شهدنا خلال الأسابيع الماضية بالمسيرات العادية والاستراتيجية، لكن رغم ذلك شهدنا عودة المواطنين من الداخل أو الخارج إلى الأحياء والمنازل السكنية»، لافتاً إلى تهيئة المؤسسات الصحية والمراكز الصحية وبث الحياة من جديد في المستشفيات الكبيرة، وتهيئة مطار الخرطوم الدولي والمرافق الاستراتيجية والحيوية.

 

بعض المتاجر عادت إلى الحياة رغم ما أصابها من دمار (الشرق الأوسط)

بعض المتاجر عادت إلى الحياة رغم ما أصابها من دمار (الشرق الأوسط)

ونبَّه فريني إلى أن المنظمات الوطنية والإقليمية والدولية تعمل بتناغم عالٍ في تهيئة البيئة المناسبة لعودة المواطنين، وأن الحركة تدب في أوصال العاصمة الخرطوم بمحلياتها المختلفة، والأحياء الشعبية تكتظ بالسكان ومحلية كرري (شمال مدينة أم درمان) لا تكاد تجد فيها منزلاً شاغراً، والإيجارات أصبحت عالية جداً.

 

ونوّه بأن مراكز التنمية الاجتماعية عادت حالياً لتباشر مهامها في الإسناد النفسي للمتضررين من الحرب، خصوصاً المرأة التي تعرضت لأبشع الانتهاكات.

 

وأوضح أن «الحرب السودانية مُعقدة جداً ولها أبعاد سياسية وثقافية وعميقة في الأثر النفسي، وجزء كبير من هذه الحرب صُمم على الجانب النفسي، وآثارها النفسية دائماً ما تكون طويلة المدى. والحرب جاءت لتبعد الإنسان عن أرضه واستهداف تاريخه وماضيه وتراثه ومتاحفه ومعارفه التي تكونت عبر قرون وشكّلت ملامح الدولة السودانية لكن تم استهدافها».

 

متاجر في وسط الخرطوم أصابها الدمار فيما تبحث السلطات ترتيب الأوضاع (الشرق الأوسط)

 

وأكد فريني أن الأسواق تشهد للمرة الأولى دخول المنتجات الزراعية والحيوانية والبستانية إلى ولاية الخرطوم، والأجهزة الأمنية تعمل على إزالة التحديات.

 

ومضى بالقول: «التهديد ما زال قائماً من (قوات الدعم السريع)، بمشاركة جهات خارجية، وهذا يعني أننا انتقلنا من تهديد التنمية والاستقرار إلى تهديد الوجود، والآن نحن في مرحلة إعادة ترتيب ملامح الدولة السودانية من جديد».

 

تأهيل مراكز الخدمات

المتحدث الرسمي باسم حكومة ولاية الخرطوم، الطيب سعد الدين، ذكر أن الأجهزة المُختصة بدأت في الإجراءات الأولية المتعلقة بالنظافة والتطهير ونقل الجثث ومعالجتها، ثم جاءت المرحلة الثانية المتمثلة في نقل الأنقاض من الشوارع وفتحها.

 

وزير الاعلام بولاية الخرطوم الطيب سعد الدين (الشرق الأوسط)

 

وأوضح سعد الدين لـ«الشرق الأوسط» أن اللجنة العليا لتهيئة البيئة المناسبة لعودة المواطنين إلى ولاية الخرطوم، برئاسة عضو مجلس السيادة إبراهيم جابر، نسقت مع حكومة الولاية وفق الأولويات وعلى رأسها تأهيل محطات الكهرباء والخطوط الناقلة للمحولات الكبيرة والخطوط الناقلة، وأن الأحياء السكنية والمناطق الخدمية استهلكت نحو 15 ألف محول كهربائي تم استيرادها من الخارج.

 

وكشف سعد الدين عن معالجات كبيرة لتشغيل محطات المياه، وتشغيل الآبار الجوفية عبر منظومة الطاقة الشمسية لتلبية احتياجات المواطنين من المياه الصالحة للشرب.

 

جانب من مبنى محترق وسط الحطام في مطار الخرطوم تسعى السلطات لإعادته إلى الحياة (رويترز)

 

وأشار إلى أن المؤسسات الصحية العامة والخاصة تعرضت إلى نهب كبير للأجهزة والمعدات الطبية وتدمير البنية التحتية، لكن وزارة الصحة شرعت في إعادة الخدمة إلى عدد كبير من المستشفيات، والعمل جارٍ لعودة مستشفيات إبراهيم مالك والذرة والشعب في العاصمة الخرطوم، ومستشفى أحمد قاسم المتخصص في القلب والكلى بمدينة بحري الذي يعمل بشكل جزئي، كما أن مستشفى الأطفال يعمل أيضاً، ومستشفى بحري التعليمي سيعود إلى العمل قريباً، وكذلك مستشفى حاج الصافي، ومستشفى أم درمان التعليمي دخل الخدمة، ومستشفى الوالدين للعيون عاد إلى العمل أيضاً.

 

وأضاف: «هناك جهود كبيرة في مجال البيئة ومكافحة نواقل الأمراض والآثار المترتبة عليها، والآن الوضع الصحي مستقر للغاية وتم دحر حمى الضنك، وقبل أشهر تم دحر الكوليرا. القطاع الصحي بدأ في مرحلة التعافي».

 

عناصر في الجيش يحتفلون بعد استعادتهم القصر الجمهوري في الخرطوم يوم 21 مارس 2025 (أ.ب)

 

وتابع سعد الدين: «كما بدأ العمل في معالجة الطرق من الحفر وسفلتة بعضها، وجرت إعادة تأهيل للجسور التي تأثرت بالحرب، وقطاع الطرق يحتاج إلى أموال ضخمة جداً، خصوصاً أن ولاية الخرطوم فقدت معظم مواردها».

 

والولاية تبحث عن حلول أخرى مع اللجنة العليا لإيجاد تمويل للطرق، وهناك لجان أخرى متعلقة بفرض هيبة الدولة وضبط الأمن وإفراغ العاصمة من القوات والتشكيلات المسلحة والدراجات النارية التي كانت تشكل تهديداً أمنياً، بالإضافة إلى انتشار الشرطة وفتح الأقسام والطوافات الأمنية والخلية الأمنية لاستتباب الأمن، وهي جهود كبيرة لتوفير بيئة آمنة لعودة المواطنين ومزاولة نشاطهم».

التعليقات معطلة.