الشعر البدوي نمط من التراث الشعبي

2

علي عفيفي علي غازي
 
يُسمى الشعر البدوي بالشعر النَبَطِيّ (بفتح النون والباء وكسر الطاء ثم ياء مشددة)، أو بالشعر العامي، لعدم تقيده بما يتقيد به الشعر الفصيح لغُوياً ونحوياً، ولأن مفرداته هي من اللهجة البدوية الدارجة، ولأن معظم شعرائه من البدو. ويذهب الباحثون والمؤرخون والشعراء في مجال الشعر النبطي مذاهب شتى في تعليل تسميته، ولعل سبب ذلك هو تعدد المعاني التي تحملها كلمة «نبط»، ويُرجع البعض أصل تسميته نسبة لأن أول من قاله هم العرب الساكنون في وادي يقع في نواحي المدينة المنورة اسمه نبطي أو نبطا، وهو قول ضعيف لأن الأماكن عادة ما تُسمى بأسماء ساكنيها، على الأغلب، وليس العكس. وفي قول آخر نسبة لعرب مستعربة يُعرفون بالأنباط أو النبط، استقروا في الهلال الخصيب بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي، وبلادهم تُعرف بالعربية الصخرية، وهذا القول ضعيف أيضاً لأن ظهور الشعر النبطي في الجزيرة العربية سابقاً عن العراق. والراجح أن هذا الشعر سُمي بهذا الاسم لأنه استنبط، أو استحدث، من الشعر العربي الفصيح؛ فمع مرور الوقت وضعف اللغة الأصلية بسبب التنقل بحثاً عن المراعي والغزو، احتاج العرب إلى استنباط لهجات قريبة من لغتهم الأصلية. لذا نلاحظ أن الشعر النبطي يختلف عن الفصيح بعدم تمسكه بالقواعد النحوية وعاميته. ويذهب رأي حديث إلى أن مسماه نابع من أن كلمة نبطي في العهد الذي نشأ فيه كانت تعني عجمة اللسان وعدم الفصاحة، سوء أكان الموصوف عربياً أم غير عربي، ولذا فقد سُمي الشعر الذي خرج عن أصول الفصحى بالشعر النبطي، وهي تسمية منسوبة إلى قوم اسمهم الأنباط من غير العرب، كانوا يسكنون سواد العراق، وامتد وجودهم جنوباً حتى البحرين، أي أنهم كانوا مصاقبين للبادية العربية، وكانوا رمزاً لفساد اللسان والعجمة.
 
 
يذكر ابن خلدون (732-808هـ/ 1332-1406م) في مقدمته الشعر البدوي، ويعتبر أول من دوّن نصوصاً من الشعر العامي، تنير الدرب، وتلقي الأضواء على الشعر النبطي البدوي بطريقة لا تقبل اللبس. ويحتفي ابن خلدون بهذا النوع من الشعر، ويعتبره شعراً يستحق الاهتمام لما فيه من مقاييس فنية وموضوعية وبلاغية، ولم يعتبر مخالفة الإعراب مقياساً وحيداً لمعرفة قيمة الشعر وأهميته. يقول ابن خلدون: «ولما فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين أعرابها، وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة، فكانت تُحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة، وفي كثير من الموضوعات اللغوية، وبناء الكلمات، وكذلك الحضر وأهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف، فلم يُهجر الشعر بفقدان لغة واحدة، وهي لغة مضر… وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسّبون، فأهل أمصار المغرب من العرب يُسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم، وأهل المشرق من العرب يُسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي، وربما يُلحنون فيه ألحاناً بسيطة… ثم يُغنون به ويُسمون الغناء باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام، وهي منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد». ثم يورد ابن خلدون في مقدمته مجموعة من إحدى عشرة قصيدة من هذا النوع من الشعر، وجميعها من البحر الطويل، وجميعها مشوشة يصعب فهمها، كما أنها رويت بطريقتين باستثناء نص واحد. (عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي: المقدمة، (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، د. ت.)، ص 496، 522، 527-535).
 
هذه هي أقدم إشارة وصلتنا عن الشعر البدوي، بل هي الإشارة الوحيدة التي جاءتنا عن هذا الشعر، ويرجع تاريخها إلى ما يربو على خمسة قرون خلت. وهذا يعني أن الشعر البدوي قد نشأ في فترة سابقة؛ إذ ليس من المعقول أن يكون هذا الشعر قد جاء دفعة واحدة، وبالشكل الذي ذكره ابن خلدون. إذ لا بد أن يكون قد مر بمراحل من التطور حتى استوى في صورته التي لقيه فيها علامتنا. خصوصاً أن هذه الصورة مقاربة إلى حد بعيد لما هو عليه الشعر البدوي الآن.
 
يُعتبر الشعر النبطي جزءاً مُهماً من المأثورات الشعبية والأدبية في تاريخ الأدب العربي، حيث يجسد المفاهيم التي تعكس أنماط الحياة المختلفة، لاختلاف الأغراض التي يتطرق إليها. وفرعاً من دوحة الشعر العامي، ويرجح أن تكون أصوله في شعر اللهجات القبلية الفصيحة قبل الإسلام وبعده، إلا أن ظروف نشأة الشعر النبطي تختلف عن ظروف نشأة الشعر العامي الحضري، من حيث الزمان والمكان والخصائص، على الرغم من اتفاقهما في العوامل التي أدت إلى ظهور كلٍ منهما، وهي العوامل التي أدت إلى تغير الألسنة العربية وتحولها عن الفصحى إلى العامية، وكان من أهم هذه العوامل مخالطة الأعاجم من غير العرب ممن دخلوا في الإسلام، وشاركوا العرب حياتهم الجديدة. وعلى رغم استبدال لهجات الفصحى بالعامية في الشعر البدوي، إلا أنه بقي يحمل صفات الشعر العربي الفصيح وخصائصه وأسسه الفنية كالوزن والقافية والشكل العام، مع وجود تغيرات وتطورات خاصة به لم تحدث في الفصيح على رغم أنها بُنيت على الأسس الفنية الأصيلة.
 
يصعب تحديد مكان نشوء الشعر البدوي، إلا أن أقرب الأماكن وأنسبها لاحتضان مثل هذا الشعر إنما هي منطقة الخليج العربي وأطراف نجد المجاورة للحواضر العربية في العراق، ومنها تسرب إلى ما يليها من أمكنة حيث انتشر في الجزيرة العربية، وبادية الشام، والعراق، وسيناء، والمغرب العربي، والسودان وعربستان، والحبشة، ومصر، ويحتل الشعر النبطي مكانة مرموقة في منطقة الخليج العربي، تتمثل في كونه اللون الأدبي الشعبي الشائع، الذي يُعبر الناس بواسطته عن مشاعرهم وقضاياهم. وتحديد أسماء القبائل التي نشأ فيها الشعر النبطي أمر غاية في الصعوبة. أما زمان نشأته فهو متأخر عن زمن نشأة الشعر العامي في الحواضر، نظراً لانعزال البوادي العربية، وبعدها عن التأثر بالأعاجم من حيث المكان، ومن حيث الطبيعة، حيث يميلون إلى المحافظة على القديم، وينفرون من التجديد والبدع. وتاريخ نشأة الشعر العامي البدوي، هو تاريخ انتشار العامية على ألسنة البدو في قلب الجزيرة العربية، وكان تبلوره واستواؤه في نهاية القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس. ويذهب أحد الباحثين إلى القول أن «نشأة الشعر النبطي وتاريخه إنما يعودان إلى ما قبل الشعر الفصيح، لأن الشعر النبطي هو في الأصل شعر أنباط البتراء الذين كانوا يتحدثون العامية العربية التي هي أساس الفصحى الحالية، وتوارثه خلفاؤهم في ما بعد جيلاً بعد جيل من دون تعديل أو تطوير أو تحوير، وبقي كما هو عامياً». (غسان حسن أحمد الحسن: الشعر النبطي في منطقة الخليج والجزيرة العربية، قسمان، (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1990)، القسم الأول، ص 65). فالشعر النبطي لم يكن وافداً على البادية العربية، وإنما كان وليداً لها ترعرع على ألسنة أهل البادية بلهجاتهم العامية، وأتيحت له فرصة الانفلات إلى رحاب جديدة لم تتقيد بالقنوات الفصيحة، وصاغته الإبداعات البدوية الجمعية.
 
يتميز الشعر البدوي بأنه عربي الأصول والأبنية والتقاليد، مقولاً باللهجة العامية البدوية، كما أنه منظوم، ومرتجل حيث يرتجله الشاعر، ووليد اللحظة لا إعداد له مسبقاً، ومن مميزاته كذلك العفوية والمباشرة بمعنى عدم الاختيار، لذا نجده بسيط الأسلوب لغوياً وفنياً يقول ويلفريد ثيسجر: «في تلك الليلة خيم الهدوء، عندما أخذ أحدهم يُلقي الشعر، فالعرب ينظمون الشعر بسهولة خلال ترحالهم، ويتذوقونه جيداً، وقد سمعت فتى يقدم وصفاً شعرياً على السليقة لبعض المراعي التي رآها، كان يعبر تلقائياً عن مشاعره وأحاسيسه» (ويلفريد ثيسجر: الرمال العربية، (أبو ظبي: موتيف ايت للنشر، 1992)، ص 77). والشعر النبطي يكتب كما ينطق كي يفهمه القارئ، ولا يخضع إلى قواعد اللغة. و «لغة الشعر النبطي هي اللهجة البدوية عامة، والنجدية خاصة، هذه اللهجة التي لم تبتعد عن أصلها الفصيح بمقدار ابتعاد اللهجات الأخرى الحضرية، على رغم أنها مثلها تحللت من قواعد الإعراب وحركاته، وطرق التصريف والاشتقاق وقوالبها». وخصائص الشعر النبطي وصفاته تجعله قريباً من أنماط أدبية أخرى، وتربطه بصلة وثيقة بالشعر الفصيح، وهو على درجة من الصلة بالشعر الشعبي أو الفلكلوري، واعتبره البعض نمط من أنماط الفلكلور تبنته جماعة الشعب، ويغلب أن يكون مجهول القائل، معبراً عن الوجدان الجمعي للشعب، ويتناقله الناس من جيل إلى جيل مشافهة. يقول الرحالة المجري ميهاي الحداد: «العربي كثيراً ما يُغني عن الحب، وعن فرسه، ويمتد الشعر من دير الزور حتى السهل الجنوبي في الصحراء العربية الحجرية، تتناقله القبائل البدوية، ولا أحد يعرف من قائله ومؤلفه أبداً. فأغنية البدوي تتكون كما تتكون عادة الأغاني الشعبية في كل مكان». (ميهاي فضل الله الحداد: رحلتي إلى بلاد الرافدين وعراق العرب، ترجمة ثائر صالح (بيروت: كتب للنشر والتوزيع، 2004، ص 106).

التعليقات معطلة.