حازم صاغية
صار معتاداً أن يتنزّه القادة الإيرانيّون، وكبار زبانيتهم غير الإيرانيّين، في بلدان المشرق. إنّهم يفعلون كأنّهم في غرف بيت واسع تملكه طهران. أحدهم، مثلاً، انتهى به المطاف، قبل أشهر، في جنوب لبنان. كذلك صار معتاداً أن يقولوا من الكلام ما لا يقال حتّى في غرف النوم. النيّات السوداء باتت دعوات لا حرج فيها. علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى، تحدّث في بغداد بلسان «صحوة إسلاميّة». قال إنّ تلك الصحوة «لن تسمح للشيوعيّين والليبراليّين بالعودة إلى الحكم في العراق». السبب الفعليّ أنّ أعداداً من «الشيوعيّين والليبراليّين» سيخوضون الانتخابات المقبلة على قائمة «سائرون» لمقتدى الصدر.
بالطبع، لم يحكم «الشيوعيّون والليبراليّون» العراق من قبل. لكنّ ولايتي الذي يمارس تدخّلاً وقحاً في العراق، لم يكلّف نفسه عناء المراجعة السريعة لتاريخه الحديث. البلد في جيبه، فلماذا بذلُ الجهد لمعرفته؟ السلطة سبقت المعرفة وألغت الحاجة إليها.
مع هذا يبدو أنّ ولايتي يعرف فصلاً من تاريخ المرجعيّة الشيعيّة في العراق. هكذا استشهد بفتوى أصدرها في 1961 محسن الحكيم، المرجع الشيعيّ الأوّل آنذاك. الفتوى تقول: «لا يجوز الانتماء إلى الحزب الشيوعيّ، فإن ذلك كفر وإلحاد». هذه الفتوى، التي لا يُحسد صاحبها على عمقها، صدرت إبّان الصراع الناصريّ– الشيوعيّ المحتدم، وبعد انهيار التحالف بين حاكم العراق عبدالكريم قاسم وشيوعيّي بلده. الفتوى التي تذكّرها ولايتي، كما لو كانت هدفاً للمستقبل، كلّفت دماً لم يخل من وصفه أيّ كتاب جدّي عن عراق الستينات.
والسيّد ولايتي الذي صدر عن تيّار يناهض الشيوعيّة تاريخيّاً أكثر ممّا يناهض الإمبرياليّة، عرف حالتين شيوعيّتين، واحدة استؤصلت، وشارك هو نفسه في استئصالها، والأخرى فضّلت أن تَستأصل نفسها خوفاً من أن تُستأصل.الأولى شيوعيّة إيران التي اجتُـثّـت في 1983 حين اتّهم النظامُ القائد الشيوعيّ نور الدين كيانوري بالجاسوسيّة للسوفيات. كيانوري «اعترف» بذلك على شاشة التلفزيون مثلما كان ضحايا ستالين «يعترفون» بأنّهم جواسيس. أمّا الحالة الأخرى، الأشدّ رأفة وتسامحاً، فهي الشيوعيّة المصريّة في عهد عبدالناصر. معتنقوها ذاقوا الأمرّين في السجون ثمّ اندمجوا، وقد «أقنعتهم» بذلك موسكو، في «الاتّحاد الاشتراكيّ العربيّ». الشيوعيّة السوريّة تندرج أيضاً في هذه الخانة: فهي قد تخالف بشّار الأسد في نيوليبراليّته، لكنّها توافقه في كلّ شيء آخر، بما في ذلك مذابحه المتنقّلة بين حلب والغوطة. أمّاالشيوعيّة اللبنانيّة التي صفّى رجالُ ولايتي في بيروت رموزها، فتوصّلت إلى ضرورة تصعيد النضال ضدّ الإمبرياليّة الأميركيّة. هؤلاء الشيوعيّون، في حالتيهم الإيرانيّة والمصريّة- السوريّة-اللبنانيّة، مقبولون من السيّد ولايتي.
الشيوعيّون العراقيّون لم يخلُ تاريخهم من بعض هذه «الهِنات الهيّنات». فهم أيضاً سبق أن رأوا وجه عبد الكريم قاسم مرسوماً على وجه القمر، ثمّ انضمّوا، ولو بضغط سوفياتيّ، إلى «جبهة وطنيّة تقدّميّة» يرعاها صدّام حسين. لكنّهم حين جاء الأميركيّون ورفعوا شفرة صدّام عن أعناقهم، وأعناق غيرهم، وجدوا أنّ من غير المنطقيّ، ومن غير الأخلاقيّ، المضيّ في تصعيد النضال ضدّ إمبرياليّة أميركيّة أتاحت لهم لا حرّيّة البقاء على قيد الحياة فحسب، بل حرّيّة العمل الحزبيّ أيضاً. في هذه الغضون، ولحسن الحظّ، كان الاتّحاد السوفياتيّ قد ولّى، وولّت بالتالي قدرته على مطالبة الشيوعيّين بأن يموتوا موتاً مجانيّاً.
لكنّ مهمّة ولايتي، على أيّة حال، لم يكن الشيوعيّون والليبراليّون موضوعها إلاّ عرضاً. موضوعها كان «طرد» الولايات المتّحدة من العراق، ومن المنطقة إن أمكن. والبائس أنّ شيوعيّين كثيرين في هذه المنطقة لا يزالون مستعدّين أن يناضلوا من أجل «طرد» كهذا، طردٍ تحلّ بعده إيران سيّدةً مطلقة يشارك الشيوعيّون في دفع الأكلاف الدمويّة لسيادتها.
أغلب الظنّ أنّ كيانوري حين «اعترف» بـ «جاسوسيّته»، تذكّر الذين أجبرهم رفاقه في روسيا الستالينيّة على فعل الشيء نفسه. الأخلاق، على الأقلّ، تستدعي من الشيوعيّين أن يغادروا سياسات الكذب والالتواء. شيوعيّو العراق، بردّهم العنيف والمستحقّ على ولايتي، أوحوا بأنّهم يفعلون شيئاً كهذا.