الصحافة الورقية في العراق… ماضٍ مُختلف عليه ومستقبل مجهول

1

مع تأهبها للاحتفال بـ«عيدها»الاثنين – 4 ذو القعدة 1442 هـ – 14 يونيو 2021 مـ رقم العدد [ 15539]

بغداد: «الشرق الأوسط»

يحرص الصحافيون العراقيون على الاحتفال كل عام بـ«عيد الصحافة العراقية»، الذي يصادف الخامس عشر من يونيو (حزيران) ذكرى إصدار أول صحيفة ورقية اسمها «الزَّوراء» على يد الوالي العثماني مدحت باشا عام 1869. ورغم توالي العصور التي ازدهرت في بعضها الصحف طبقاً للعهود والأنظمة الحاكمة في البلاد فإن الاحتفال بهذا «العيد» لا يزال يمثل رمزية تحترمها الأجيال الصحافية في العراق. وهي تضم الآن جيلاً مخضرماً، بمعنى أنه عاصر حقبة ما قبل 2003، وجيلاً جديداً ولد مع الإنترنت وتوابعه.

مع هذا الجيل الثاني، ولدت أنماط صحافية وإعلامية جديدة، تراوحت بين «ميديا» الإعلامين المسموع والمرئي التي زاحمت نسبياً الصحافة الورقية خلال العقود الماضية، ومواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) التي تراوحت بين الصحافة الإلكترونية وما بات يسمى «المواطن الصحافي»، وهذه بالطبع باتت حالة عامة لا ينفرد بها العراق وحده. ولكن، بينما لم تتأثر الصحافة الورقية في العراق مع دخول أول راديو للعراق عام 1936 وأول تلفزيون عام 1956. ويومذاك كان العراق الرائد العربي الأول في كليهما، فإنها بدأت تتأثر مثل سواها من الصحف الورقية في كل بلدان العالم تقريباً إلا ما ندر.

في العراق تركت أنظمة الحكم تأثيراتها المتباينة على الصحافة العراقية، وبالذات الورقية منها. فإبان العهد الملكي (1921 – 1958) مرّت الصحافة الورقية بمراحل مختلفة ترنحت خلالها بين الحرية مرة والتضييق مرة أخرى طبقاً للجرعة من الديمقراطية التي كانت تمنحها السلطات آنذاك. ومع ذلك، كان لها دورها الفعال، الذي وصل أحياناً إلى إسقاط حكومات. وهذا جعلها تنتشر بشكل كبير في أوساط الناس، بحيث صارت الصحف في عقدي الأربعينات والخمسينات تصدر بطبعتين صباحية ومسائية، ليس في بغداد فقط، بل حتى في بعض المحافظات الشمالية والجنوبية من البلاد.

إلا أنه بعد «ثورة يوليو 1958» خضعت الصحافة الورقية لطبيعة أنظمة الحكم الجمهورية، وأصبحت عرضة لمتغيرات كثيرة بسبب اضطراب الأوضاع حتى عام 1968… عندما سيطر البعثيون على البلاد لمدة 35 سنة بلا انقطاع. وطوال السنوات الـ35 من حكم حزب البعث سيطرت آيديولوجية واحدة هي آيديولوجية حزب البعث، وانعكست على واقع الصحافة بشكل عام ومنها الورقية. وفي حين كانت تبلغ مبيعات الصحف مئات آلاف النسخ فإن أعدادها كانت قليلة نسبياً. فبالإضافة إلى الصحف الرسمية وهي «الثورة» و«لجمهورية»، صدرت خلال الثمانينات إبّان الحرب العراقية ـ الإيرانية صحيفة عسكرية يومية هي «القادسية» وأخرى أسبوعية هي «اليرموك»، ومجلة عسكرية هي «حراس الوطن». كذلك، كانت هناك صحف للمعارضة التي تشكلت خلال حقبة «الجبهة الوطنية» بين حزب البعث من جهة وكل من الشيوعيين والأكراد. الشيوعيون أصدروا جريدة «طريق الشعب» ومجلة «الفكر الجديد»، بينما أصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة مسعود بارزاني وقبله والده مصطفى البارزاني – المتوفى عام 1977خارج العراق) صحيفة «التآخي»، وأصدر منافسه الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني (توفي عام 2017) «الاتحاد». وكذلك صدرت صحيفة أهلية واحدة هي «الراصد». أما على صعيد المجلات فقد كانت هناك مجلة «ألف باء» وهي أسبوعية ومجلة «فنون»، وهي أسبوعية أيضاً، فضلاً عن صحافة الأطفال مثل «مجلتي» و«المزمار».

بطبيعة الحال، بعد غزو العراق عام 2003، حصل تغيّر في كل شيء في البلاد بما في ذلك الصحافة الورقية. إذ اختفت صحافة النظام السابق تماماً، التي كانت لا تزيد عن 5 صحف تقريباً، وأسس خلال السنتين الأوليين من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 مئات الصحف اليومية حتى باعة بعض الحلويات أصدروا هم أيضاً صحفاً يومية. وبينما حصل هذا «الانفجار الإعلامي» بسبب كثرة أحزاب المعارضة التي دخلت العراق مع الأميركيين، أو نتيجة المنح الأميركية التي كانت تقدر في الفترة الأولى بملايين الدولارات لمن يروم إصدار صحيفة تقترب من المشروع الأميركي تحت عنوان «نشر الديمقراطية». ورغم أن النمو الهائل للصحافة الورقية تزامن مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية ووكالات الأنباء والفضائيات، فإن الأعداد الكبيرة للصحف الصادرة خلال السنوات الخمس الأولى من الاحتلال الأميركي بدأت تتراجع. وبالفعل، احتجب معظمها ولم يصمد إلا عدد قليل ما زال يصدر في ظل صعوبات مادية ناجمة عن شح الموارد الإعلانية التي تكاد تكون المصدر الوحيد. والواقع، أن جلّ أصحاب رؤوس الأموال أو كبار السياسيين اختاروا الترويج لمشاريعهم عبر الفضائيات أو المواقع والوكالات.

اليوم تواصل مجموعة من الصحف الورقية الصدور، كلها ما عدا صحيفة واحدة هي «الزمان» – الذي يملكها مؤسس قناة «الشرقية» سعد البزّاز – صدرت بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وعلى رأس هذه الصحف «الصباح»، وهي الصحيفة الرسمية التي تصدر عن شبكة الإعلام العراقي، و«الزوراء» التي تصدر عن نقابة الصحافيين العراقيين، فضلاً عن صحف حزبية مثل «طريق الشعب» التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي وصحف أهلية مثل «المشرق» و«الصباح الجديد» و«الدستور» و«البينة الجديدة» و«المدى» و«كل الأخبار» و«المواطن» و«المورد».

هنا يمكن التساؤل… هل ماتت أو في طريقها إلى الموت الصحافة الورقية؟ وهل لا تزال لدى الصحافة العراقية طموح في توسيع إمكانيات الانتشار… أم أن الآمال بدأت تتضاءل مع اتساع نطاق القراءة عبر المواقع الإلكترونية حتى للصحف التي لا تزال لديها طبعة ورقية؟

الدكتور طه جزاع، وهو إعلامي معروف وكان ترأس تحرير عدد من الصحف والمجلات، فضلاً عن كونه أستاذ فلسفة في جامعة بغداد، يجيب «الشرق الأوسط»، فيقول إنه «رغم أن معطيات الحاضر تشير إلى سيادة المواقع الإلكترونية الخبرية، وعكوف ملايين القراء عن متابعة الصحف الورقية، وكذلك موت الخبر على أيدي الوكالات الخبرية، ومعها القنوات الفضائية التي تنقل الأحداث مباشرة، وتتقصى الأخبار وتتابع الأحداث أمام أنظار ومسامع المشاهدين في كل بقاع العالم… غير أن ذلك كله لا يعني موت الصحافة الورقية، ولا انسحابها النهائي عن مسرح الحياة، ولو إلى حين لم يحن أوانه بعد».

ثم يتابع: «قد تبدو القضية عاطفية نوعاً ما. إذ من الصعوبة بمكان أن يتصور الصحافي الذي أمضى عمره بين هدير المطابع ورائحة الحبر وسخونة الورق، حلول اليوم الذي تشرق فيه الشمس على الأرض من دون صحف ورقية. ومن الصعوبة أيضاً أن يغير قارئ الصحف الورقية عاداته القرائية الصباحية حتى في ظل توفرها على المواقع الإلكترونية. هذا الأمر قد لا يكون مستساغاً للأجيال الجديدة من الصحافيين والقراء على السواء الذين استغنوا عن الورق واستعاضوا عنه بشاشة الكومبيوتر أو الهاتف الذكي… يُقَّلبون فيها صفحات الصحف والمجلات بيسر وسهولة مع تحديثاتها المستمرة للأخبار التي لا تتوقف، ناهيك من أخبار الفضائيات والمحطات الإخبارية التي لا يمكن أن يختبئ فيها الخبر مهما كان سرياً حتى مطلع الصباح».

ويضيف الدكتور جزاع أنه «أمام هذه الحقائق، وأيضاً أمام التغييرات السلوكية للبشر التي فرضتها جائحة (كوفيد – 19) وألقت بظلالها الثقيلة على العالم أجمع، اختفت الكثير من الصحف الورقية، أو انخفضت مبيعاتها وتقلصت أعدادها، واكتفى الكثير منها بالموقع الإلكتروني، تقليصاً للنفقات وللجهد البشري. ومن أجل الصمود أمام الغول الإلكتروني الرقمي الذي ابتلع العشرات من الصحف والمجلات، وما زالت شهيته مفتوحة لابتلاع صحف ومجلات أخرى قد تجد نفسها مُجبرة في النهاية على الانصياع لمنطق السوق. إنه منطق العرض والطلب الذي يحدد مدى الحاجة للسلعة، حتى وإن كانت مجلة أو جريدة ورقية. ثم يشير إلى أن «الكثير من الصحف العراقية باتت تكتفي عادة بمواقعها الإلكترونية، ومنها صحف ورقية، تضطر في بعض الإيام للاحتجاب الورقي بسبب نقص الإعلانات التي تغطي تكاليف الطباعة… وهي تصدر في الأيام التي تتوفر فيها تلك الإعلانات». ويختتم حديثه بالقول إن «الصورة تبدو يائسة بالتأكيد، غير أن الحرس القديم للصحف الورقية من الصحافيين والقراء يأبى الاستسلام حتى وإن دخلت محبوبته غرفة الإنعاش، والأمل يحدوهم أنها لن تلفظ أنفاسها الأخيرة، على الأقل وهم على قيد الحياة».

التعليقات معطلة.