الصخب والعنف العراقي: رواية بلا راوي… وشعب بلا مخرج

24

 

حين كتب ويليام فوكنر روايته الخالدة “الصخب والعنف” كان يرثي انهيار بنية اجتماعية ونفسية في عمق الجنوب الأميركي، عبر شخصيات مضطربة، مهلوسة، تعيش على أطلال أمجاد مفقودة، وتستنزف نفسها في حوار داخلي لا يسمعه أحد .
وبعد قرن من الزمان، يكاد المشهد العراقي اليوم يُعيد إنتاج هذه الرواية، لا كأدب رمزي، بل كواقع متجسد . دولة فقدت سردها الوطني، مجتمع مأزوم، قوى سياسية تتحدث بلسان مشوش، وتيارات “قائدة” لا تملك من القيادة إلا الصخب… والعنف.

انهيار المعنى وسط فوضى الأصوات
كما في الرواية، حيث تتعدد وجهات النظر وتضيع الحقيقة في زحام السرد المتضارب، يعيش العراق اليوم في ضجيج سياسي لا يهدأ: تصريحات، مظاهرات، تغريدات، تهديدات… الجميع يتكلم، لكن لا أحد يُصغي، ولا أحد يُنتج معنى.
بل الأسوأ من ذلك، أن بعض “القيادات” التي تُمنح منابر يومية لتوجيه الرأي العام، تُنتج خطابًا مضطربًا، متقلّبًا، أشبه بهذيان شخصيات فوكنر التي تعجز عن التمييز بين الماضي والحاضر، بين الحلم والكارثة، بين الوطن… والمصلحة الشخصية.

عقل جماعي مشلول وراوٍ مختل
في الفصل الأول من رواية فوكنر، يتم السرد من منظور شخصية تعاني إعاقة عقلية، في إسقاط أدبي على الانحدار العقلي والأخلاقي للمجتمع. وفي العراق، تبدو بعض “القيادات الملهمة” — التي يُنظر إليها على أنها مرجعية سياسية أو دينية أو ثورية — أشبه بماكينة مشاعر متشنجة، بلا منطق ولا مشروع.
هؤلاء القادة يمتلكون جمهورًا غاضبًا، متحمسًا، لكنه بلا وعي سياسي، يُساق بالهتاف والانفعال، كما يُقاد القطيع نحو هاويته، ظنًا أنه يسير نحو النجاة. هم قادة “اللا مشروع”، يرفضون كل شيء… دون أن يقترحوا شيئًا، ويستثمرون في الجهل العاطفي لجمهورهم، لا في وعيه المدني أو عقله الوطني.

دولة كعائلة ميتة: من يمثل العراق؟
كما تنهار عائلة “كومبسون” في الرواية تحت ثقل الخيانة والعجز وفقدان الإرادة، يبدو أن الدولة العراقية قد ماتت أخلاقيًا منذ أن تحوّلت من مشروع سيادة إلى مجرد عقد شراكة بين قوى تتقاسم النفوذ والولاء.
فلا أحد يمثل العراق فعليًا، بل الجميع يدّعي تمثيله وفقًا لما يخدم مصالحه، والهوية الوطنية تُجزّأ إلى هويات فرعية، والمواطن يُختزل إلى رقم انتخابي أو وقود طائفي، لا أكثر.

زمن سياسي لا يتحرّك
الزمن في رواية فوكنر لا يسير إلى الأمام، بل يلتف حول نفسه، وكأن الشخصيات محكوم عليها بإعادة نفس الأخطاء بلا أمل في النجاة. كذلك العراق، الذي يدور منذ 2003 في حلقة مفرغة: احتلال فاقتلاع فوضى، يليها “تسوية”، فميليشيا، فاحتجاج، فخيانة… ثم يبدأ كل شيء من جديد.
هذا الزمن العراقي المشوّه هو تعبير صارخ عن غياب الإرادة السياسية لبناء دولة، ووجود إرادة منظمة لبقاء الخراب.

نهاية مفتوحة… أم مغلقة؟
رواية الصخب والعنف تنتهي بانهيار العائلة إلى ما دون الحياة. العراق لم ينتهِ… لكنه يُستنزف. وكأننا نعيش فصول رواية لم تكتمل، لا لقلّة الصفحات، بل لأن “الراوي” الحقيقي غائب. والسؤال: هل هناك صوت عاقل، جاد، يمتلك القدرة لا على فضح هذا الصخب، بل على إسكاته؟ هل في الأفق من يملك الجرأة لإعادة العراق إلى السرد الوطني النظيف، بعيدًا عن لغة القطيع، ومسرح الجنون، وسيناريوهات الخارج؟
الجواب حتى اللحظة: لا أحد. لكن، كما قال فوكنر ذات يوم:
“الإنسان لن يُهزَم، قد يُدمَّر… لكنه لا يُهزَم.”

التعليقات معطلة.