د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
في قطاع غزة تبدو الأمورُ محددة المعالم، فهناك احتلالٌ وعدوانٌ وإبادةٌ جماعيةٌ، تقابلها مقاومة، وفي الوقتِ ذاته جهودٌ لوسطاء يسعون لصياغةِ اتفاق يرضي الطرفين الرئيسيين، يتضمَّن فترةَ هدوء قد تليها فترة أخرى تمهد لتحركات سياسية أكبر تأثيراً، لا سيما إن انتهت الانتخابات الرئاسية الأميركية بفوز الديمقراطية كامالا هاريس التي تعبر عن قناعتها بضرورة وقف الحرب وحل الدولتين. وللإنصاف القول إن لا أحد من القوى الدولية الكبرى الأخرى لديه أي قدر من التأثير فيما سبق ذكره، ويظل التأثير الأكبر في يد واشنطن، حتى ولو أخذ شكلاً مزدوجاً؛ يدعم إسرائيل بكل قوة، وبدون أدنى خجل، وفي الآن نفسه يعلن أحياناً في ظل إدارة ديمقراطية مواقف تؤيد بعض ما يستحقه الفلسطينيون، لكن دون أي خطوة فعلية لترجمة تلك المواقف إلى واقع. وقد يتغير الشق الثاني كلياً حال فاز ترمب برئاسة جديدة، وهو الباحث عن كيفية مساعدة إسرائيل للتوسع، نظراً لكونها صغيرة الحجم، حسب قوله.
وضوح المدخلات بالنسبة لما يجري في قطاع غزة على النحو السابق، مع غموض تام لما سيكون عليه القطاع بعد عدة أسابيع وحسب، يقابله تداخل وتشابك أكثر من متغير في الضفة الغربية المحتلة؛ فهناك السلطة الوطنية والاحتلال الإسرائيلي، وفصائل مقاومة مُعلنة وغير مُعلنة، وتأثيرات دينية وسياسية قادمة عبر الحدود، وتركيز أردني على الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك، وفق اتفاق 2004، من أربع نقاط، قامت فيه أميركا بدور رئيسي ووقعه الملك عبد الله ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، أقرَّ بالحق الحصري للمصلين المسلمين، وزيارات السائحين، بما فيهم اليهود، دون أداء الصلاة، وهوما يتم تجاوزه الآن تدريجياً. ويكتمل العقد بمجموعات المستوطنين الإسرائيليين الطامعين في الأرض الفلسطينية، والمؤمنين بأن الضفة أرض مقدسة لا يسكنها سوى اليهود، ووراءهم أقطاب في الحكومة الإسرائيلية الموسومة باليمينية والتطرف، يخططون وينفذون توسيع الاستيطان في كل بقاع الضفة، ويؤمنون بأن ما يفعلونه بمثابة أمر إلهي ومهمة مقدسة.
لكل طرف من هؤلاء مكامن قوة وضعف، بعضها مادي وبعضها معنوي، ويتحقق التأثير والنفوذ من خلال القدرة الكلية على تغيير الواقع وخلق حقائق جديدة على الأرض. هنا تبدو عمليات الاستيطان الشرهة المقرونة بالعنف المنهجي في الضفة الغربية المحتلة أحد أهم المدخلات التي تعيد صياغة المعادلات الكلية في الوقت الراهن، لا سيما بشأن مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية ومبدأ حل الدولتين، والنضال الفلسطيني في المرحلة المقبلة، والدور الأردني بشأن المسجد الأقصى، وأمور أخرى كثيرة؛ أبرزها من سيدير الضفة الغربية ووفق أي شرعية قانونية.
توسع المستوطنات الصهيونية وخلق بؤر استيطانية جديدة، سواء وصفا إسرائيلياً بالشرعية أو غير ذلك، فالنتيجة واحدة، وهي استقطاع أراضٍ وإخراجها من السيادة الفلسطينية المفترضة على تلك الأراضي حال تقرر إقامة كيان فلسطيني بمسمى دولة، وهو أمر يبدو الآن بعيد المنال، وليس بالضرورة مستحيلاً. وسيظل السؤال الأبرز كيف سيتم التعامل مع هذا الكم من المستوطنات التي تسيطر على حوالي 40 في المائة من مساحة الضفة الغربية، وترتفع النسبة إلى 68 في المائة في المنطقة «ج» وفقاً لتصنيفات اتفاق أوسلو، التي تتوافر فيها النسبة الأكبر من الموارد الطبيعية الفلسطينية كالمياه والغابات والطرق.
ويمتد السؤال الأكثر صعوبة إلى أعداد المستوطنين القابلة للزيادة مع مرور الأيام. العدد المعلن الآن يقترب من 500 ألف مستوطن فيما يسمى المستوطنات القانونية بالمعنى الإسرائيلي، ويصل عددها إلى 176 مستوطنة، ويرتفع الرقم إلى حوالي 720 ألف مستوطن آخر، بعد إضافة البؤر الاستيطانية، وعددها 185 بؤرة، الجاري إضفاء صفة قانونية على الكثير منها مع حماية عسكرية مباشرة. وفي الإجمال ففي مقابل كل خمسة فلسطينيين من بين ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف فلسطيني، هناك مستوطن واحد، وتستهدف استراتيجية الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، لا سيما في الضفة الغربية، أن تتغير هذه النسبة في المدى القريب إلى مستوطن لكل ثلاثة فلسطينيين، وفي مرحلة لاحقة تصبح النسبة مستوطناً واحداً إلى كل فلسطيني، ما يغير وفقاً لهذه الاستراتيجية طبيعة الصراع من احتلال غير شرعي لأرض فلسطينية إلى نزاع حول الأرض بين مقيمين عليها بحكم الأمر الواقع، ما يضفي شرعية على مطلب فرض السيادة الإسرائيلية على كامل الضفة وفقاً لواضعي ومطبقي استراتيجية الاستيطان، وينهي عملياً حل الدولتين.
في دراسات «منظمة بيت سليم» المناهضة للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، واستناداً إلى إحصاءات رسمية إسرائيلية، وأخرى فلسطينية، تبرز حقيقة مثيرة إلى حد كبير، فمعدل الإنجاب للمُستوطِنة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة يصل 7.3 مولود سنوياً، مقارنة بمعدل الإنجاب في داخل إسرائيل الذي ينخفض إلى 3.2 مولود، بينما معدل الإنجاب للمرأة الفلسطينية انخفض إلى حوالي 3 مواليد فقط، ما يعطي دفعة أكبر لزيادة أعداد المستوطنين مقارنة بأعداد الزيادة لأصحاب الأرض، خصوصاً في البؤر الاستيطانية التي يقيمها المستوطنون المتدينون، حيث سبعة أطفال لكل أسرة، التي توفر لها المنظمات الاستيطانية والحكومة سبل الدعم والمحفزات الاقتصادية الكبيرة، من بينها مقابل مادي كبير لكل طفل يولد. ومع الضعف العام الذي تمر به السلطة الوطنية الفلسطينية يبدو من الصعوبة بمكان التفكير في استراتيجية فلسطينية مضادة للاستيطان الإسرائيلي بكل أبعاده، فالأولوية الضاغطة هي الحفاظ على بقاء السلطة ووجودها ذاته، في وقت تتعاظم فيه مخاطر الانزواء المتدحرج التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية الحالية، وترتفع فيه مشاعر الغضب الشعبي تجاه السلطة ورموزها.