مشاري الذايدي
أستميحكم عذراً في هذه الجولة التاريخية، في نهاية المقالة، أكتبُ المُراد.
حركة الزعيم السياسي العراقي رشيد عالي الكيلاني ضد السلطات البريطانية، في العراق، ثم إخفاق حركته، وهروبه من العراق، ثم لجوؤه إلى الملك عبد العزيز، رجل العرب الكبير، الذي بسط عباءته على الباشا رشيد، ورفض الضغوط البريطانية لتسليمه، واقعة مشهورة، تحوّلت لجزءٍ من الموروث الشعبي السعودي.
حصلت واقعة رشيد الكيلاني عام 1942 لكنّها لم تكن الوحيدة، وإن كانت الأشهر، هي مع بريطانيا، القوة الغربية الكبرى لقرون، والثانية، غير المشهورة كثيراً، كانت مع القوة الشرقية الكبرى في وقتها، وما زالت – تشاطرها ذلك الصين – أعني روسيا.
فما القصة التي جرت قبل قصة الكيلاني بـ5 سنوات؟
عبد الكريموف طبيبٌ مسلمٌ كان يعمل في السفارة الروسية. تبحث عنه السفارة لرفضه الذهاب إلى روسيا، وكان الحكمُ فيها للرفاق الشيوعيين، وركوب الباخرة الروسية الراسية بميناء جدة، خوفاً على حياته من السلطات الشيوعية الجديدة، وهو الآن بين يدي قائمقام جدة، السعودي الشيخ إبراهيم بن معمّر، بعدما ضاقت به السُّبُل، يريد اللجوء للسعودية والعيش بمكة أو جدة أو أي مكان بالسعودية.
يقول إبراهيم الحسّون، وهو سكرتير الشيخ إبراهيم بن معمّر، الحاكم الإداري السعودي لجدة، حينها، إن القائمقام كان يسمع كلامه بهدوء، ثم قال للطبيب الروسي الخائف: «إن التقاليد العربية تحمي من هو في مثل وضعك، وأنت فوق ذلك مسلم، والحكومة السعودية ملزمة بالدفاع عنك، مهما كلّفها ذلك، أنت الآن هنا مُكرّمٌ في بيتك».
يروي الحسّون أن القائمقام طلب منه أن يكتب برقية للملك عبد العزيز، عن الموضوع، فكتبها وابن معمّر جالسٌ أمامه على المكتب، ثم عرضها عليه، فأدخل عليها تعديلات، ثم أمره أن يشفّرها في الحال للرياض، لعبد العزيز، ثم اتصل ابن معمر تلفونياً بإدارة لاسلكي جدة، ليخبرهم أن في الطريق إليهم برقية عاجلة تصل فوراً للملك.
بعد ذلك بساعتين، مع أذان الفجر، البرقية الجوابية من الملك عبد العزيز تصل، يقول الحسّون: «قرأتُ البرقية على قائمقام جدة، ونصّها:
ابن معمّر – جدة
ج برقيتكم بشأن الطبيب الروسي… أحسنتم في تصرّفكم، عمّدوا المذكور بتوجّه إلى مكة، وقد عمّدنا الابن فيصل (الملك فيصل لاحقاً، وكان نائب الملك على الحجاز) بإشعار السلطات الروسية بأن الطبيب المذكور لاجئٌ عند المملكة العربية السعودية وقد وافَقتْ على طلبه، ومنَحتهُ اللجوءَ لديها، ولذا فلا موجب لبقاء البارجة بعد الآن في الميناء، كما عمّدناه باتخاذ اللازم نحو ما يلزم بتأمين سكن المذكور في مكة، وتوفير كل ما يحتاجه.
التوقيع
عبد العزيز».
ثم يخبرنا الحسون، أن القائمقام ذهب للطبيب الروسي «اللاجئ» بمبنى القائمقامية، وأعطاه برقية عبد العزيز، فقرأها الرجل، ثم أجهش باكياً، وضمّ القائمقام ضمّة – كما يقول الحسّون – شملت كل معاني الشكر، أضيفُ – أنا – والطمأنينة بأن السعودية حصنٌ لا يُرام.
جرت الواقعة بسبتمبر (أيلول) 1937 (إبراهيم محمد الحسّون، خواطر وذكريات).
المُراد، أن الدولة القوية هي التي لديها عمقٌ تاريخي، وخطابٌ أخلاقي، واستقلالٌ كريمٌ في القرار، وبذات الوقت عقلانية سياسية عملية.