العالم على كف عفريت

3

جميل مطر – الخليج

صورة منذ طفولتي لم تغادر مخيلتي. درست بين ما درست بعض مناهج قراءة المستقبل، وتابعت مع زملاء وأصدقاء جانباً من الدراسات النظرية والواقعية حول هذا الموضوع، ومع ذلك بقيت الصورة لا تغادر. صورة ابتكرها علماء أقدمون عن عالم محشور بين قرني ثور ضخم. ثور تخيلته دائماً غاضباً. دائماً يركض وفي اتجاهات متناقضة. يفاجئنا بالتوقف للحظة ثم يثور واللهب الكثيف صادر من أنفه وأذنيه، حتى خيل لي أكثر من مرة أن يوماً سيأتي يشتعل الثور بالغضب أو باليأس، إلى درجة تجعله يلقي بما يحمل بين قرنيه في بحر أو وادٍ عميق.

الآن أعود إلى الواقع وتفاصيله، وبخاصة بعد أن رأيت بنفسي الخوف يطل بقسوة من وجوه أعرفها، رأيته على وجوه رؤساء دول ومسؤولين كبار في الخارج. أما مصادره فغير قليلة. أذكر هنا القليل منها:

* أولاً: الأسلوب الذي جاء به الرئيس دونالد ترامب إلى ولايته الثانية من سنوات الندم والاستعداد ونية الانتقام. منذ اليوم الأول من الولاية الثانية في البيت الأبيض انتهج الرئيس أسلوب المزج بين التهديد والابتزاز في لقاءاته مع ضيوفه وبخاصة رؤساء الدول. أعرف أن هذا الأسلوب المستجد في دبلوماسية البيت الأبيض قد حقق بالفعل النتائج المتوقعة منه وأهمها بث الخوف.

* ثانياً: أنا، ومثل غيري كثيرون ممن هم في عمري، شاهد على الاغتيال السياسي كأداة من أدوات الصراع السياسي الداخلي. لاحظ معي إصرار المسؤولين السياسيين في حكومة نتانياهو على تذكير الدول العربية كل يوم بإمكانات إسرائيل الهائلة في مجالات استخدام الاغتيال السياسي.

* ثالثاً: استنتجت من كتابات معلقين وخبراء غربيين، وبخاصة الأمريكيين منهم، أن بعض سلوكيات الرئيس الأمريكي وسياساته في الآونة الأخيرة صارت تكشف عن قلق شديد يدفعه للتطرف في مواقفه خشية اتهامه بالضعف.

جدير بالذكر الاعتقاد السائد في واشنطن كما في غيرها بأن جائزة نوبل للسلام التي يسعى إليها ويطلبها الرئيس الأمريكي من زواره عادت تبتعد حتى صارت أملاً بعيد المنال وموضوع تندر ينشغل به أمراء برامج الفكاهة والسخرية في «الميديا» الغربية. وفي الوقت نفسه صار هذا الضعف خطراً يهدد مكانة أمريكا ويؤثر مباشرة في توجهات السياسة الخارجية.

* رابعاً: انكشف أمام الرأي العام الأمريكي والدولي الدور الخطِر والمهم جداً الذي تؤديه المصالح الشخصية في صنع السياسة في أمريكا وانعكاساتها على الخارج. وبالذات الدور المتنامي لعالم رجال الأعمال وجماعات التكنولوجيا المتقدمة، وبوجه خاص جماعة كبار المطورين وسماسرة العقارات وجماعة الصهيونية العالمية ممثلة في «أيباك» وغيرها.

هنا يجدر بي التوقف أطول قليلاً لأهمية ما يطرأ يومياً من مظاهر خوف خطِرة تكشف بدورها عن أحداث عالمية لا تقل خطورة. ففي مؤتمر عقده الناشط و«المؤثر» الجمهوري اليميني الشاب تشارلي كيرك اجتمعت الألوف المناصرة له وللرئيس ترامب المدين له ببعض الفضل في فوزه في انتخابات الرئاسة، قيل إن شاباً مجهول التوجه والعقيدة، شاباً بسيطاً بماضٍ أبسط، لكن ببندقية غير بسيطة، أطلق النار على الناشط والقائد لهذا التيار المتزايدة شعبيته. المثير أنه في هذه اللحظة أو في أعقابها نشبت في الولايات المتحدة انتفاضة إعلامية لعلها الأولى في تاريخ الدولة.

بعد يوم أو يومين لم توجد قناة تلفزيونية إلا وصار هذا الحادث شغلها الشاغل. لماذا قتل تشارلي ومن القاتل الحقيقي؟. هذه المرة جاءت بسرعة الإجابة عن سؤال من القاتل وما الجهة المدبرة والمنفذة لجريمة قتل تشارلي كيرك.

لماذا قتل تشارلي كيرك؟ الشاب المؤيد لمواقف ترامب اليمينية والمؤيد سابقاً لإسرائيل على أسس مسيحية. جاءت الإجابة المدوية بأصوات العديد من الإعلاميين الأكثر شعبية في صفوف الإعلام الأمريكي، «قُتل لأنه، وهو الداعم للتحالف الأمريكي الإسرائيلي، أبدى في الآونة الأخيرة تحفظات قوية على سياسات إسرائيل في فلسطين، واعتراضات على المدى العميق الذي وصل إليه النفوذ السياسي الصهيوني في الدولة الأمريكية حتى صار يهدد الديمقراطية والقيم المثلي في أمريكا». لم يتأخر هؤلاء الإعلاميون في الرد على بقية السؤال، وهو عن القاتل الحقيقي.

*خامساً: جاء الرد وكأنه الزلزال المنتظر من البعض والمتوقع من البعض الآخر. جاء الرد في شكل اتهام صريح وخطِر، القاتل هو الأجهزة الخفية في الصهيونية العالمية بمعاونة عملاء في أكبر جهازين للاستخبارات في العالم، البريطانية والأمريكية وفي جهاز الموساد الإسرائيلي.

* سادساً: لم يعد خافياً أن قتل الشاب الأمريكي تشارلي كيرك، سوف يزيد من حجم الخوف المنتشر في مختلف دوائر القرار السياسي. يتردد وبكثرة على ألسنة المنتفضين وكتاباتهم أن أمريكا اليوم أمام نوع من الخوف غريب ومخيف، وبخاصة خوف الكبار، سياسيين كانوا أم إعلاميين ومثقفين. يتردد أن تشارلي لم يخف على مستمعيه في أيامه الأخيرة غضبه وهو يرى أن الصهيونية الأمريكية تتلاعب بأولويات أمريكا وتضع مصالح إسرائيل قبل مصالح أمريكا.

* سابعاً:  يتردد الآن، وأسمعها أكثر وأكثر من أصدقاء في مواقع نفوذ، يتردد أن الرئيس ترامب نفسه يخضع هذه الأيام لحملة ضغوط بالغة الخطورة ولأعمال ابتزاز تتصل بمصالح عائلته المالية وفي مجال العقارات وفي ماضي وحاضر علاقاته الحميمة.

في كل الأحوال، وبخاصة حال كل من أمريكا القطب الأعظم والمهيمن، وحال إسرائيل الطرف الأقوى عسكرياً وإرهابياً في معادلة الشرق الأوسط وحال العلاقة بينهما، غير خافٍ نوع المستقبل القريب للأوضاع الدولية والإقليمية.

التعليقات معطلة.