العالم يلهث والعرب في “قيلولة”… التكنولوجيا ولعبة الأمم!

1

المصدر: النهار العربي

محمد حسين أبو الحسن

يتمتع الجنس البشري بقدرة هائلة على التغيير الذي يتجاوز كل توقّع، على نحو يصدم الأفكار السائدة نتيجة الطفرات العلمية والتكنولوجية، ويدفع إلى ارتياد مجالات لم تكن تخطر في بال، أو خلق تحولات في بنية المجتمعات. أصبحت التكنولوجيا أحد أبرز عناصر القوة الشاملة للدول، وعاملاً محدّداً في نتائج “لعبة الأمم” الدائرة بشراسة لا متناهية على المسرح الدولي. يلهث العالم على هذا الدرب، بينما يغفو معظم العرب في قيلولة “سعيدة”!

عبودية التكنولوجيا
بات التقدّم التكنولوجي لازماً من أجل قوة الدولة، على المديين القريب والبعيد، وحيوية المجتمع وأمنه ورفاهية أفراده. تفرض التكنولوجيا هيمنتها على المجتمع المعاصر، ويبدو الإنسان كما لو كان عبداً خاضعاً لها، مسلوب الإرادة أمام سطوتها. ليس المقصود من التكنولوجيا هنا الآلات والأجهزة وما شابه من المنجزات المادية التي حقّقها التقدّم الحديث، إنما المقصود أيضاً التكنولوجيا باعتبارها أسلوباً للتفكير والسلوك والعلاقات الاجتماعية. إنها قوة هائلة أسبغت نوعاً من الدقة والكفاءة على العقل الإنساني في نظرته إلى العالم، وفي تناوله شؤون الحياة اليومية.

منذ اللحظة التي قدح فيها الإنسان الأحجار لتوليد النار في العصر الحجري، إلى أن دشّن الأقمار الاصطناعية والاتصالات السريعة وتقنيات المعلومات في الوقت الراهن، تدور عجلة التكنولوجيا بلا هوادة، لا تتيح للبشر التقاط أنفاسهم؛ تشكّل ركناً ركيناً من عمليات التحوّل التي قادت إلى إنشاء المجتمعات وتنظيمها، وغالباً ما تحدّد القدرة على ابتكار أو الوصول إلى التكنولوجيا طبيعة هذه المجتمعات والحضارات، فإذا كان التغيير هو الوسيلة التي يغزو بها المستقبل حياتنا، فإن التكنولوجيا تسرّع عجلة التغيير، في الحاضر والمستقبل. تُدرك الدول الكبرى أهمية التكنولوجيا وأدوارها المفصلية في تشكيل موازين القوى والسياسة والاقتصاد والشؤون الأمنية والعسكرية، وصولاً إلى تحسين معيشة المواطنين. وتحاول توظيف التكنولوجيا سلاحاً استراتيجياً، بمنحها إلى الحلفاء أو منعها عن المنافسين. مثلاً، يحاول الغرب اليوم عرقلة وصول الصين إلى التكنولوجيات المتطورة، إذ يعلم المخاطر الأمنية والسياسية التي ينطوي عليها التجسس الصيني، وعمليات نقل التكنولوجيا القسرية، والتفاعلات التجارية الاستراتيجية. تلعب الولايات المتحدة مباراة شطرنج بتوزيعات للقوة التكنولوجية على المستويات العسكرية والمدنية بكل تفرّعاتها، بما يعني أن التكنولوجيا أهم معايير القوة في سباق الأمم نحو مقعد الزعامة العالمية.

العلاقات الدولية
يؤثر التقدّم التكنولوجي في موازين القوّة، في طابعها وتوزيعها ومصادرها ومظاهرها وخصائصها. فالإمكانات العلمية والتكنولوجية وموارد المعرفة والمعلومات هي رأس المال الفكري الذي تنعكس جودته على مستوى الابتكار، وهي في الوقت نفسه إحدى السمات الرئيسية للقوة، ويكفي أن تلقي نظرة على التقدّم التكنولوجي الذي طرأ على الأسلحة العسكرية وقدراتها التدميرية ونوعياتها ومدياتها. تحتل الولايات المتحدة موقع القيادة في النظام الدولي، بفضل ميزتها النسبية في القوة التكنولوجية والاقتصادية، وتتدرّج بعدها القوى الأخرى التي تحتل قمة الهرم الدولي.

لا تزال الصورة بعيدة من الاكتمال، تحتاج إلى توضيح ضروري. يشهد العصر الحالي سرعة غير مسبوقة في صناعة وسائل الاتصال وتطورها، خصوصاً تكنولوجيا المعلومات، وهذه السرعة الرهيبة بكل مفاعيلها جعلت “المتغيّر التكنولوجي” يخلق تقسيماً دولياً جديداً للعمل، يُعيد صوغ هياكل النظام العالمي على المستوى الاستراتيجي، وتشكيل أطر جديدة للعلاقات الدولية. فقد أسهمت الثورة التكنولوجية في تراجع دور الأيديولوجيات، بعدما كانت، حتى وقت قريب، دافعاً ومحركاً للتفاعلات الدولية، لتحلّ مكانها التكنولوجيا، إضافة إلى عناصر أكثر حداثة تنتمي إلى البعد الجيواقتصادي والجيوسيبراني في النظام الدولي.

اليوم، تشكّل ثورة المعلومات تحدّياً للممارسة الدبلوماسية التقليدية، وتزيد من تعقيد بيئة العمل الدبلوماسي. وهذا أدّى إلى ظهور “الدبلوماسية الجديدة” في المفاوضات بين الدول من أجل الحفاظ على مصالحها الوطنية، وهذه دبلوماسية تمّ تحديدها على افتراض أن عمليات التفاوض الدولية ترتبط، بشكل أو بآخر، بنشاط الكيانات الفاعلة من غير الدول، خصوصاً الشركات التكنولوجية متعددة الجنسيات. إن سياسة التحكّم في التكنولوجيا التي تمارسها كيانات الغرب الصناعي اليوم تهدّد الثقافات الوطنية في دول العالم الثالث.

ارتباطاً بهذا، تتحدّد ملامح العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة بمفهومها الواسع، التكنولوجيا كأداة تدير حياة الإنسان. فقد أصبحت التكنولوجيا بوسائلها المتعددة جزءاً محورياً من السياسة العامة في إنجاز المعاملات والخدمات الحكومية عبر التطبيقات الإلكترونية، بسرعة ودقة، بعيداً من الطرق التقليدية التي يعشّش فيها الفساد والفاسدون.

مخاوف مشروعة
وبالرغم من ذلك، ينطوي حضور التكنولوجيا في حياة الأفراد والدول على جوانب سلبية أو أخطار، إذ يمكن أن تنقرض مهن وتنتشر البطالة بين أصحابها، ما ينجم عنه تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية بعيدة المدى. نشر بيتر لوري، خبير المعلومات والبيانات الأميركي، مقالةً في مجلة “نيوساينتست” تناول فيها ظاهرة البطالة المتزايدة نتيجة استخدام المعالجات الدقيقة في أجهزة الحاسب الإلكتروني، قائلاً: “لسنا أول حضارة تواجه تلك المشكلة، روما القديمة وضعت نفسها في مأزق حرج بسبب ما لديها من منظومة عبيد شاملة. فالعبد في الإمبراطورية الرومانية هو المعالج الدقيق لدينا الآن، جيش ناجح حقّق إنجازات كبيرة في الخارج، ولم يكن هناك أمام الناس ما يؤدونه، فظهرت أعراض تزايد أعداد المجرمين وتفشي أعمال البلطجة في الشوارع”.

هكذا يعدّ المتغيّر التكنولوجي تاريخياً أحد أهم المتغيّرات المؤثرة في التفكير والنشاط الإنساني. فالتطوّر الذي يُصيب الأدوات المادية في المجتمع، ينعكس على طبيعة التفكير ومستواه. ووسط الجو العاصف والتوترات التي لا تهدأ من حولنا، إقليمياً ودولياً، يبدو أن العالم على موعد مع “فصل جديد” من فصول التاريخ الاستعماري. ومن ثمّ، نظلّ بحاجة إلى تحصين الأمن القومي العربي بكل صوره، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً… إلخ… من تأثير المتغيّرات التكنولوجية والمعلوماتية الكبيرة، ثم الإفادة منها، خصوصاً أن هناك قصوراً في اهتمام البلدان العربية بتقدير أهمية التعليم الجيد والمعارف والتكنولوجيا في عملية التنمية.

التكنولوجيا مورد استراتيجي، وليس اقتصادياً فحسب، فالقدرة التكنولوجية هي المصدر الحقيقي لثروة المجتمع وركيزة تقدّمه. لذلك، يتعيّن على الدول العربية أن تهرول صوب إصلاح شامل، أي تغيير السياسات وأنماط التفكير وأساليب الإدارة، والابتعاد عن العشوائية والارتجال، والحدّ من قيود تعرقل قيام مجتمع متوازن، ما يخلق مناخاً عاماً صالحاً لإنبات التكنولوجيا… وقطف ثمارها اليانعة!

التعليقات معطلة.