وليد محمود عبد الناصر
على مدار الأسابيع القليلة الماضية، تسارعت وتيرة الأحداث العالمية وتداعياتها، ما جعل العالم يلهث لمحاولة التمكن مِن متابعة تطورات الأوضاع مِن قارة إلى أخرى. ويسري ذلك على أحداث وتطورات في مختلف مناحي الحياة الإنسانية، بما فيها موضوعات يتم تصنيفها عادة ضمن فئة ما تمكن تسميته «الشؤون الجارية». ويندرج ضمن هذا الإطار الأخير على سبيل المثال لا الحصر، تصاعد التجاذبات بين الحكومة والمعارضة في فنزويلا، ومتابعة تصاعد الضغوط في زيمبابوي وصولاً إلى دفع الرئيس الزيمبابوي روبرت موغابي إلى تقديم استقالته، ومتابعة الانشقاق الذي جرى بين الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح وحلفائه الحوثيين ثم تعرضه للاغتيال على يد حلفاء الأمس القريب، وأخيراً متابعة قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل واتخاذ قرار نقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس. وخلال هذه المسيرة، كان من الواضح أن العالم بأسره بات يلهث وراء متابعة تلك الأحداث وتطوراتها وتداعياتها من خلال وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، وكذلك متابعة ردود الأفعال، مرة أخرى على صعيد الوسائل التقليدية أو وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها. وعلى مدار تلك المراحل المتلاحقة، زاد وعينا وإدراكنا في آن واحد ليس فقط بالأهمية المتزايدة لثورة المعلومات والاتصالات في عالمنا، كأحد تجليات ظاهرة العولمة في طورها الراهن، وليس فقط بالتأثير المتصاعد لمنتجات تلك الثورة على تشكيل وجهات نظر البشر في أنحاء مختلفة من العالم، بل وعلى صياغة توجهات مواطنين ينتمون إلى بلدان مختلفة لها ثقافات متباينة وخلفيات تاريخية متعددة وتجارب وخبرات إنسانية متراكمة تتنوع ما بين حالة إلى أخرى، بل أيضاً تطور فهمنا لبعض المخاطر التي تحملها في طياتها بعض معالم وتجليات تلك الثورة، وكذلك بعض التيارات التي جسدتها أو عبر عن جزء من توجهاتها أو أفرزها العديد من المنتجات المتنوعة لثورة المعلومات والاتصالات.
فبالإضافة إلى واقع جديد مفاده أن هناك رؤساء دول وحكومات وقادة وساسة وصناع رأي ومثقفين ومفكرين وكتاباً وفنانين باتوا يستخدمون وسائل الإعلام غير التقليدية، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، في شكل منتظم ودوري وبوتيرة متسارعة، بل وأحياناً متسرعة، لتعريف الآخرين بمواقفهم وآرائهم، بل وأحياناً حتى بقراراتهم، سواء كان هؤلاء الآخرون هم من مواطني بلدانهم أو ممن ينتمون لبقية شعوب العالم وبلدانه من حولهم، فإن ردود الأفعال على هؤلاء القادة صارت في أغلبها تتبلور أيضاً من خلال تلك الوسائل الجديدة، وذلك لأكثر من سبب. أما السبب الأول فيتعلق بأن ثورة المعلومات والاتصالات مكنت من الحصول على المعلومات، سواء كانت تلك المعلومات صحيحة أو خاطئة أو مضللة أو مجتزأة أو مختلقة أو تقدم كل الحقيقة أو جزءاً منها، سواء تم توثيق تلك المعلومات أو لا، وذلك كله بشكل مباشر وسريع، بل فوري في الكثير من الأحيان، ومن دون أي قيود يمكن أن تفرضها الحكومات أو حدود تقررها معايير الجغرافيا. وبغض النظر عن محاولات هذه الدولة أو الجهة أو تلك في الحيلولة دون معرفة المعلومة أو الحصول عليها ثم محاولة منع نشرها وحظر انتشارها. ومن جهة أخرى، يتعلق السبب الثاني بحقيقة أن الأكثر ارتباطاً، بل والتصاقاً، بوسائل الإعلام الجديدة وغير التقليدية، بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي، هم من النشء والشباب بشكل خاص. ومن جهة ثالثة، يتصل السبب الثالث بواقع أن أصحاب أو مؤسسي «المجموعات» على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي لكل منهم بالضرورة أولويات وارتباطات وجدول أعمال خاص به تعكس قناعات أو مصالح أو الاثنين معاً، ويسعون إلى تنفيذها من خلال التأثير عبر تلك الوسائل على أعداد أكبر من البشر عبر العالم بغرض كسب أعداد أكبر من التابعين لهم والموافقين على آرائهم ومواقفهم، ما يعزز من وزنهم وثقلهم وتأثيرهم، ولو بشكل نسبي، مقابل منافسيهم أو المختلفين معهم في الآراء أو المواقف.
لكن تلك الأسابيع الأخيرة ذاتها شهدت، وبجانب الأحداث المتلاحقة على الساحة العالمية وردود الفعل عليها، العديد من التطورات والقضايا والمشكلات، بل وأحياناً الفضائح المتصلة بعدد من المواقع والمجموعات والصفحات والحسابات المنتشرة من خلال بعض وسائل التواصل الاجتماعي على الصعيد العالمي، حيث رأينا العديد من الحالات من أصحاب حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي يتهمون أصحاب مجموعات أو مواقع إما بالتعدي على حساباتهم واختراقها أو بالتشهير بهم والإساءة إلى سمعتهم أو بتزوير معلومات أو بادعاء مواقع وهمية أو إنشاء صفحات أو مجموعات لا وجود لها، حتى في العالم الافتراضي، بغرض توريطهم والإيقاع بهم أو التأليب عليهم. وفي الوقت ذاته شهدنا حالات أخرى وجه فيها البعض أصابع الاتهام إلى مجموعات وصفحات وصمتها بممارسة أشكال مختلفة من التمييز أو التحريض عليه، سواء على أساس العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الجنس، أو العقيدة، أو الرأي، أو على أقل تقدير بالتعبير عن توجهات تتحرك في هذا الاتجاه، ما استهدف أصحاب آراء مختلفة عن هؤلاء، وذلك بغرض الحيلولة دون استمرار تعبير هؤلاء عن تلك الآراء من خلال التلويح بالتهديد أو ممارسة الابتزاز أو ترويعهم بشكل أدبي، أو أحياناً حتى مادي، بهدف دفعهم إلى الإحجام عن الاستمرار في تبني تلك المواقف والآراء المعارضة لهم أو غير المتفقة معهم، أو على الأقل عدم المضي قدماً في الاستمرار بالتعبير عنها بشكل علني في وسائل الإعلام التقليدية أو الجديدة، من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
ولا شك في أن من أكثر الانتقادات التي توجَّه إلى تأثيرات ثورة المعلومات والاتصالات في طورها الراهن وتتسم بمستوى معقول من الجدية، وأيضاً بمقدار لا بأس به من المصداقية، هو ما يتعلق بطبيعة منتجات تلك الثورة، والتي ربما نتيجة الأولوية التي توليها لعامل السرعة، بل والتنافس الشديد والشرس لتحقيق التفوق في عامل السرعة على «المنافس» أو «الآخر» أو «البديل».
وهكذا نرى أن لثورة المعلومات والاتصالات ومنتجاتها، مقابل الآفاق المفتوحة وغير المسبوقة التي أتاحتها، مثالب تؤخذ عليها وأوجه قصور تعاني منها ونقاط ضعف تعتريها، وبرغم كل ذلك تبقى حقيقة أن هذه الثورة مستمرة وباقية معنا، بل ويتصاعد ويتنوع ويتعمق تأثيرها في معاشنا الحياتي اليومي، ولا مجال للانعزال عنها أو رفضها أو تجاهلها لأنها ببساطة أمر واقع نعيشه ونعايشه بشكل دائم ومتواصل ومستمر وفي مختلف مجالات حياتنا نتأثر به ونتفاعل معه، ولكن ما يمكن العمل من أجل تحقيقه هو السعي لمحاولة تصويب مسار هذه الثورة ومنتجاتها ومعدلاتها المتسارعة ومعاييرها الكمية من خلال رد الاعتبار للمعايير الكيفية وللاعتبارات النوعية وإعادة تأكيد «إنسانية» الإنسان و «اجتماعيته» في آن، مع ضمان تحقيق الاستفادة المثلى من المعطيات الإيجابية لتلك الثورة ومنتجاتها الآخذة في التضاعف والمتطورة بمعدلات وسرعة غير مسبوقة، والسعي لتعظيم آثارها البناءة، ومنها طرح فرص وإمكانات حقيقية وغير مسبوقة لجعل العالم «قرية كبيرة» فعلاً وليس قولاً، وكذلك محاولة تصحيح مقومات تأثيرها بحيث يتم التقليل مما تسببه من عملية اغتراب للبشر عن محيطهم الاجتماعي والمعيشي، بل والأسري، وحلول منتوج تلك الثورة بشكل متزايد محل دوائر التفاعل المجتمعي المعتادة والمتعارف عليها من قبل البشر في إطار ما يطلق عليه ما هو «طبيعي» طبقاً بتراكم معرفي في الذاكرة التاريخية والثقافية لأجيال إنسانية متتالية، وأخيراً وليس آخراً في السياق الراهن، توجد هناك مهمة إنقاذ تلك الثورة ومعطياتها من مخاطر التوظيف لخدمة مصالح ضيقة أو ذات توجهات معادية للتعددية والتنوع على أسس العدالة والتكافؤ والمساواة والندية والاحترام المتبادل.