علي علي
أكثر من تسعة عشر عاما وبلادنا ترفل بفيض الحرية التي أمطرتها عليها سماء عام 2003 إلا أن الرعد والبرق والزوابع والأعاصير، مازالت تتصدر معطيات سماء ذاك العام، إذ لم يكن أغلب الشخوص الذين تلقوا هبة السماء بخسف الأرض بهدام العراق، جديرين بصون تلك الهبة وتجييرها لصالح البلاد والعباد، بل على مابدا أنهم كانوا (يحدّون سنونهم) لفرصة ذهبية مثل هذه، وقد جاءت (للحلگ) وكما يقول مثلنا: (عيد وجابه العباس).
وبألاعيبهم وبهلوانياتهم وتلوناتهم التي برعوا فيها أيما براعة، كذلك أفانين المراوغة والتحايل والخداع التي أبدعوا فيها أيما إبداع، استثمروا فرصة استلام مقود الحكم في العراق، وتصدروا المشهد السياسي والاجتماعي والعسكري والاقتصادي، فراحوا يسخّرون كل هذه المؤسسات لخدمة مصالحهم، وفتحوا جيوبهم عن آخرها لتهيئتها للآتي من المال، من دون مراعاة لحلال وحرام وعيب وعرف وذوق، ولم توقفهم -كما قلت بعضهم- نداءات المواطن المظلوم، حتى طفح به الكيل واختار التظاهر السلمي كسبيل أخير للخلاص من المآسي اليومية التي يعيشها في بلده، والتي تسبب بها سراقه المنحدرون من عام 2003. لقد كانت الصورة المتوقعة ان النسيج الإجتماعي وتنوع شرائحه في العراق سيستمر على نسق ونمط ثابت. كما رسمه الساسة والقادة، وفصّلوه (غسل ولبس) على مقاس المواطن، الذي بدوره مافتئ يمارس في حياته ثوابت رتيبة فهو: يطيع، يضحي، ينتخب. والنتيجة: يجوع، يُحرَم، يُسرَق ويَكظِم غيظه، وكان العمل ساريا على هذا المنوال تطبيقا لشعار البعث المقبور: “البعثي أول من يضحي وآخر من يستفيد” وحل محل البعثي مفردة المواطن. فالأديب او الشاعر على سبيل المثال، يعيش ألم وطنه وأهله وناسه ويتحسس همومهم، يسمو بحسه، وينظم قصيدة تنزف من جراح العراقيين، والنتيجة: يلقيها في محفل حضره رئيس من رؤساء المجالس الثلاث او وزير، ويفرح شاعرنا وهو يراهم يصفقون له بحرارة، ظانا ان شكواه وصلت آذانا صاغية، لكنهم في حقيقة الأمر كانوا ينفضون أيديهم ان لاشيء مما في القصيدة سيتحقق.
الكاتب هو الآخر يتألم لما يراه في مجتمعه، ينتقي الحروف الهجائية، فيستخرج منها عصارة ثقافته وأفكاره، يكتب شكوى او مقالا يصف فيه حال الخدمات المتردية أو البنى التي اصبحت دون التحتية، ويستعرض سوء الحال في مايراه من أوضاع البلد، وبعد ان تصل أنظار المسؤول الرفيع، تـُعامل كأنها موضوع إنشائي كتبه تلميذ، والسيد المسؤول قد يتعب أنامله بتصحيحه. وبذا يكون الفرق بين المسؤول وكاتب الشكوى كقول نزار قباني:
الحرف عندي نزيف دائم
والحرف عندك ما تعدى الإصبعا
والإعلامي يعشق مهنته ويمارسها بإخلاص معرضا نفسه لأخطار شتى، والنتيجة: يُبخس حقه، يُكمَّم فاه، يُضطهد، يجوع، يمرض، يموت من دون عزاء. وهكذا استمرت يوميات العراقيين بهذه الرتابة. وأظن ان هذه الرتابة تأخذ مع شريحة السراق ذات المنحى لكن بشيء من الخصوصية المعمّدة بالمحسوبية والمنسوبية، إذ هم يسيرون بالخطى الرتيبة ذاتها بجميع درجاتهم ورتبهم ومراتبهم، وتستمر الرتابة حتى آخر نفَس من السرقات، والنتيجة واضحة ومدروسة النتائج، فمكان السراق مهيأ في إحدى الدول الشقيقة وغير الشقيقة وهي كثر، وان صدر حكم غيابي فانه كما قال وزير التجارة الأسبق فلاح السوداني: (لم تهتز له شعرة من رأسي).
هذه الصورة كانت السمة البارزة لما يدور ويحصل في عراق مابعد 2003. اليوم وقد وضع المواطن إصبعه على جرحه النازف منذ سنين، بعد أن يئس من المسعفين والمغيثين، لا أظن قادم الأيام سيكون سهلا أمامه، لاسيما وأخطبوط الفساد له أذرع تمتد في كل مؤسسات البلاد، كما لاأظن التوقف في منتصف الطريق سيكون لصالح آماله التي ينشدها، والدور الأول هنا لرئيس الوزراء المرشح في قلب الصورة بما يرضي ربه ونفسه والمواطن.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط