آراء
إياد الدليمي
عراقي يرفع العلم الفلسطيني في بغداد تضامنا ودعما لعملية طوفان الأقصى (8/10/2023/الأناضول)+الخط–
في العام 2006، وخلال رحلة جماعية نظّمتها نقابة الصحافيين الأردنيين لصحافيين عرب وأجانب إلى بحيرة طبريا على الحدود مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كنت رفقة عدد كبير من الصحافيين العرب والأجانب، لم ييتجاوز عدد العراقيين منهم أصابع اليد الواحدة.
كانت الحافلة تسير بهدوء، وهي تعبر مرتفعات ومناطق خضراء كثيرة، حتى تراءى لنا من بعيد، كانت المرّة الأولى التي نراه فيها رأي العين، لم يسبق أن شاهدناه، نحن العراقيين. كنّا في ضجة نقاشاتٍ لم تنقطع طوال الرحلة، ثم فجأة سكت الجميع. خيّم الصمت على المربّع الذي كنا نجلس فيه في آخر الحافلة، تنقلت العيون بين العيون، وانعقد اللسان، برهةً من صمت، عاد بعضنا إلى مقاعدهم، وهم الذين قضوا الرحلة وقوفا، وهناك من لم يتمالكوا مشاعرهم، فانفجرت أعين بالدمع، كان العلم الإسرائيلي.
لم يسبق أن رأيناه، نحن من جيلٍ تربّى على أن فلسطين مقدّسة، لا تقبل القسمة على اثنين، فهناك فلسطين وحسب، فقد قُيّض لنا أن نعايش صراعاتٍ كثيرة باسم فلسطين، بغضّ النظر عن دوافعها وما كان وراءها، نحن من جيلٍ لم يكن إعلامه يشير إلى إسرائيل إلا بلفظ الكيان الصهيوني.
في حرب عام 1948 وبعد انسحاب القوات العراقية من المعركة، نقل الجيش العراقي معه قرابة خمسة آلاف لاجئ فلسطيني، غالبيتهم من حيفا وتحديدا من قراها الثلاث الكبرى، عين غزال وجبع وإجزم. ومنذ ذلك الحين، تعرّف العراقي إلى الفلسطيني عن قرب، وبدأت فصول حكاية لجوء مختلفٍ ربما عن بقية أنواع اللجوء التي عرفها الفلسطيني، لجوءاَ اضطرّ معه الفلسطيني أن يتعايش مع تقلبات بلدٍ لا يعرف الهدوء والاستقرار.
وقع الفلسطينيون في العراق ضحية ما جرى عقب الغزو الأميركي، وكانوا صيدا سهلاً للمليشيات الشيعية
توضح الوثائق أن العراق تعامل بطريقة مميّزة مع الفلسطينيين الذين منحهم حقّ اللجوء، علما أن تعريف اللاجئ في العراق خضع لمعيارٍ غريبٍ تمثل في أن هذه الصفة لم تُمنح إلا لمن لجأ إلى العراق ما بين عامي 1948 إلى 1950 وكانت هذه العوائل الفلسطينية اللاجئة تُعامل معاملة الفرد في القوات المسلحة العراقية، قبل أن ينتقل ملفّهم إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، اعتبارا من العام 1950.
ولعل حقّ الفلسطيني في العيش في العراق كان مكفولا، فلم تبن الحكومة العراقية مخيّمات للجوء، ورفضت أن تفتح مقارّ لوكالة غوث وتشغيل الفلسطينيين (أونروا)، متعهدة بتقديم كل ما يلزم للفلسطيني للعيش بكرامة. ورغم أن العراق أعلن معاملة الفلسطيني معاملة المواطن العراقي، إلا أن تعقيدات رسمية كثيرة كانت ترافق ذلك الوجود الذي وصل فيه عدد اللاجئين الفلسطينيين في العراق قبل الغزو الأميركي عام 2003 إلى أكثر من 40 ألفا.
وقد أصدر مجلس قيادة الثورة في العام 2001 القرار 202 الذي نصّ على أن “يعامل الفلسطيني معاملة العراقي، ما عدا خدمة العلم والجنسية والحقوق السياسية من انتخاب وترشيح”، غير أن هذا القرار تم إلغاؤه عام 2017، الأمر الذي حرم الفلسطيني من كل الحقوق التي كان يتمتّع بها. وقد وقع الفلسطينيون في العراق ضحية ما جرى عقب الغزو الأميركي، وكانوا صيدا سهلاً للمليشيات الشيعية التي رأت فيهم مجموعة تابعة للنظام السابق تارّة، أو مجموعة مختلفة طائفيا معهم، فتعرّضوا للتنكيل والتهجير والقتل.
لعلّ الفلسطينيين في العراق لن يتعافوا بالنسيان مما جرى لهم على يد المليشيات الشيعية المسلحة عام 2006
ولعلّ الفلسطينيين في العراق لن يتعافوا بالنسيان مما جرى لهم على يد المليشيات الشيعية المسلحة عام 2006، وتحديدا عقب تفجيرات سامراء التي استهدفت مرقد الإمام الحسن العسكري، وفجّرت على أثرها حرب طائفية في العراق، فقد دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا جرّاء ذلك، بعد أن هاجمتهم المليشيات المسلحة وقتلتهم وشرّدتهم، بل تحوّل الفلسطيني إلى هدف مشروع لكل المليشيات التي كانت تؤلب عليهم، ليل نهار، عبر إعلامها متعدّد الأشكال، الأمر الذي اضطرّ أكثر من 26 ألف فلسطيني إلى مغادرة العراق في تغريبة أخرى ونكبة مُرّة دفعت بهم إلى الحدود العراقية مع الأردن، حتى سمحت لهم دول في أميركا اللاتينية بالقدوم إليها. وقُتل أكثر من 600 فلسطيني خلال تلك المرحلة، بينهم شخصيات وأعلام كثيرة كانت معروفة عراقيا، وما زال جرح الفلسطينيين في العراق نديّا.
ترفع الفصائل المسلحة التي تقف وراء الحكومة الحالية شعارات المقاومة وتحرير فلسطين، كونها جزءاً مما بات يُعرف “محور المقاومة” الذي خلفه إيران، غير أن هذه الفصائل ومعها الحكومة، لا تمنح فلسطينيي العراق حقهم بالعيش الكريم وتحرمهم من أبسط حقوقهم. وليس الحديث هنا عن الفعل المقاوم الذي يُفترض بتلك الفصائل فعله مع هذه المواجهة المفتوحة مع دولة الكيان، فلم يصدُر منها سوى مجموعة بيانات هزيلة ومواقف بائسة.
تبقى فلسطين حاضرة في الذاكرة العراقية صورة جميلة لا تستحقّ أن يرفعها إلا من آمن بها وناصرها بعيدا عن أي حساباتٍ ومصالح. وحتى يحين ذلك الوقت، ستبقى ذاكرة العراقيين مشبعة بقصصٍ عن بطولاتٍ سطّرها عراقيون قاتلوا إلى جانب أشقائهم في حيفا ويافا والقدس وجنين والضفة الغربية، يستذكرون في كل مناسبة شهداء الجيش العراقي الذين ما زالت قبورهم شاهدة على وقفةٍ كان يمكن أن تحقّق الكثير، لو أنها اتخذت لنفسها مسارا أبعد من مسارات الأنظمة وحساباتها.