قال بأن الاجتياح الأمريكي للعراق أعاد صياغة مشهد حركات الإسلام السياسي بالعراق (الأناضول)
لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.
لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الإنتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.
يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.
في الجزء الثالث والأخير من عرضه لتجربة الإسلاميين في العراق يقدم الكاتب والإعلامي العراقي صادق الطائي، خارطة الإسلام السياسي وتحولاته في عراق ما بعد الاحتلال عام 2003.
العراق.. الاحتلال أعاد تشكيل خارطة الإسلام السياسي (3من3)
بعد الإطاحة بنظام صدام حسين إثر الإجتياح الأمريكي عام 2003، كانت الحسابات الأمريكية تتعامل مع الواقع العراقي وفق مبدأ الترويكا العراقية، لتسهل على إدارييها وجنرالاتها التعامل مع واقع مجتمع مجهول بالنسبة لهم. الترويكا العراقية (الشيعة، السنة، الكرد) كانت الحل الأسهل للتعاطي الأمريكي مع مشاكل البلد، وبما أن الشيعة والكرد كانوا قد أفرزوا أحزابهم السياسية عبر عقود من العمل السياسي في المنافي، وجدهم الأمريكيون جاهزين للتعاطي مع متطلبات الحقبة الجديدة، بينما كان التمثيل السني ضعيفا ومترددا، وأضيف له التهميش الذي مارسته الحركات الشيعية والكردية تجاه السنة، طورا باعتبارهم أقلية، وطورا باعتبارهم حاضنة لفلول نظام صدام حسين، ومع غياب فعالية أحزاب ليبرالية حقيقية تعمل على احتواء الحراك السياسي العراقي على أسس المواطنة الحقيقية دون النظر إلى العرق أو المذهب أو الدين، واجه سنة العراق الأمر بالرفض والتقوقع أولا، ثم التمترس بمكوناتهم القبلية التي انفتحت على احتواء الحركات الجهادية الإسلامية التي تسلل مقاتلوها إلى داخل العراق لاحقا لتنفتح ساحة حرب مع عدو الإسلاميين الأول؛ الولايات المتحدة.
هيئة علماء المسلمين
كانت المحاولة الأولى لمواجهة التمركز الشيعي حول ما يعرف بالمرجعيات الدينية هي بحث السنة عن هذا النوع من التجمع، ونتيجة ضعف آداء الحركة السنية الوحيدة في الساحة آنذاك وهي الحزب الإسلامي الواجهة السياسية لحركة الإخوان المسلمين، فقد اقترح عدد من رجال الدين السنة من مختلف التوجهات طرح هيكلة تحاول أن تجمع سنة العراق من مختلف التيارات: الإخوان، السلفية، الصوفية، ومن المذاهب الفقهية المتعددة تحت مظلة واحدة أطلق عليها “هيئة علماء المسلمين” التي ترأسها في البدء الشيخ الدكتور أحمد الكبيسي المعروف بوسطيته واعتداله ثم آلت رئاسة الهيئة إلى الدكتور حارث الضاري يساعده عدد من الشيوخ والأكاديمين مثل الشيخ الدكتور بشار الفيضي والشيخ أحمد حسن الطه والدكتور محسن عبد الحميد والدكتور عبد الستار عبد الجبار والدكتور محمد عبيد الكبيسي والشيخ الدكتور عبد الجليل الفهداوي والشيخ الدكتور عبد السلام الكبيسي، والشيخ الدكتور إسماعيل البدري والشيخ عدنان العاني والشيخ الدكتور فهمي القزاز بالإضافة إلى غيرهم من العلماء والمشايخ.
إقرأ أيضا: هيئة علماء المسلمين بالعراق تبارك “ثورة الشعب”
لكن سرعان ما تغيرت بوصلة الهيئة مما دفع باتجاه إنخراطها في الصراعات السياسية، سواء في الشارع السني مع المنافسين الاخرين، أو في النضال ضد الوجود الأجنبي في العراق، وهذه الصراعات جعلتها قريبة من بعض الحركات السنية المسلحة التي ظهرت بعد عام 2003 مثل كتائب ثورة العشرين وجيش الفاتحين وجيش محمد، كما دخلت في صراعات مسلحة مع القوات الحكومية عدة مرات مما دفعها للخروج من العراق وإدارة عملها السياسي من المنافي المحيطة بالعراق مثل الأردن ومصر وبعض دول الخليج العربي.
الفصائل السنية المسلحة
مع ساعات الاحتلال الأولى، بعيد سقوط النظام عام 2003 ابتدأ نشاط جماعات إسلامية سلفية وصوفية وجهادية في العراق. حركات كانت قد وجدت حاضنتها الأولى إبان الحملة الإيمانية التي أطلقها نظام صدام حسين والتي وفرت مساحات من التسامح من قبل النظام تجاه هذه الحركات وبشكل خاص في المدن العراقية ذات الأغلبية السنية.
لقد تمترس بنشاط حركات الإسلام السياسي السني الكثير ممن المتضررين من إطاحة نظام صدام الذي أعقبه حل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية والمخابراتية وتسريح مئات آلاف من منتسبيها الذين فقدوا الثروة والسلطة والمكانة، لذلك سرعان ما ائتلفت قيادات عسكرية وأمنية سابقة مع مجاهدي الحركات الإسلامية العرب والأجانب المتسللين إلى داخل العراق في تشكيل الحراك السني اللاحق.
وقد مثل حراك هذه الجماعات الدافع الأساس لانطلاق الاحتراب الطائفي الذي تصاعد ووصل إلى مرحلة الحرب الأهلية المعلنة عندما بايعت حركات جهادية تجمعت أولا تحت مسمى مجلس شورى المجاهدين في محافظة الأنبار الذي تحول لاحقا إلى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين الذي قاده أبو مصعب الزرقاوي الراديكالي الأردني الذي حارب في أفغانستان مع أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، والذي تسلل هاربا من جبال تورا بورا في أفغانستان بعد الهزيمة حتى وصل إلى جبال كردستان العراق ثم قصبات مدنه ذات الأغلبية السنية.
ووصل الصراع ذروته بتفجير مراقد الشيعة المقدسة في مدينة سامراء شباط / فبراير 2006 ، مما أشعل ردود فعل إنتقامية صبتها الميليشيات الشيعية المسلحة مثل جيش المهدي تجاه السنة في عمليات قتل على الهوية تقابل عمليات القتل على الهوية الذي مارسته الحركات المسلحة السنية تجاه الشيعة، وأصبحت حرب السيارات المفخخة التي باتت تحصد آلاف الأبرياء في الأسواق والمدارس ومجالس العزاء سيناريو يومي في مدن العراق. ولم ينتهي الاحتراب الطائفي (2006 ـ 2007) إلا بلجوء القوات الأمريكية لتجنيد القبائل السنية في غرب وشمال العراق في مناطق تواجد تنظيم القاعدة ودعمها بالمال والسلاح والنفوذ فيما عرف بحركات الصحوة التي حاربت تنظيم القاعدة وطردته من المدن السنية الرئيسة.
لكن النار بقيت تحت الرماد في الحراك السني العراقي بعد مقتل الزرقاوي بغارة أمريكية استهدفته في أحد البيوت التي كان يلجأ لها في محافظة ديالى شمال شرق العاصمة بغداد. ومع اشتعال الحرب الأهلية السورية عام 2011 ابتدأ العمل من جديد على تفعيل نشاط التنظيمات الإرهابية ليتحول تنظيم القاعدة في العراق إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ليتم بعد ذلك انسلاخه عن تنظيم القاعدة الأم في أفغانستان عبر خلع البيعة لقادته هناك، وتأسس ما عرف بتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام الذي بات يعرف إعلاميا بتنظيم “داعش”، وهو الحلقة الثالثة من التنظيمات الراديكالية السنية التي استقطبت نشاط الإرهابيين من مختلف دول العالم عبر فتح أبواب القتال لهم في العراق وسوريا، وكانت الكارثة الكبرى عندما سيطر التنظيم على مدن كبرى في العراق وسوريا عام 2014، عندما انهارت قوات الجيش العراقي أمام هجمات التنظيم التي اتسمت بالعنف الوحشي واستراتيجة الرعب التي مارسها مقاتلو التنظيم عند دخولهم للمدن التي تسقط في قبضتهم.
يبقى اليوم وجود الإسلام السياسي السني ممثلا بالحزب الإسلامي وبعض الحركات الإسلامية الأخرى موجودا على الساحة العراقية
سيطر تنظيم “داعش” على محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار بالكامل كما سيطر على أجزاء من محافظتي كركوك وديالى، ووصل تهديده إلى حدود مدينة بغداد بعد أن سيطر على حوالي ثلث مساحة العراق. وعلى إثر استعادة صحوة القوات المسلحة العراقية التي دعمتها دعوات المرجعية الشيعية وفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقتها والتي تشكل بموجبها ما عرف بقوات الحشد الشعبي، ابتدأت عمليات استعادة المدن العراقية من سيطرة التنظيم الإرهابي التي امتد لثلاث سنوات، حتى أتمت القوات المسلحة العراقية تحرير آخر المدن العراقية من سيطرة عصابات تنظيم “داعش” كانون أول / ديسمبر عام 2017.
ويبقى اليوم وجود الإسلام السياسي السني ممثلا بالحزب الإسلامي وبعض الحركات الإسلامية الأخرى موجودا على الساحة العراقية، إلا أن هذه التنظيمات تعاني اليوم من فقدان تعاطف شارعها السني معها بعد ما حل بالمدن السنية من نكبات طوال سنوات سيطرة تنظيم داعش على هذه المدن، ونتيجة التدمير الذي طالها خلال عمليات التحرير. ويحاول الشارع السني اليوم أن يلتف حول رموز علمانية من العملية السياسية مبتعدا عن رموز الإسلام السياسي السني نتيجة ما عناه طوال 15 سنة من دوامات العنف.