ليس من قبيل المبالغة القول إن العراق، هذه الرقعة التي تتكئ على دجلة والفرات، كان في لحظتين مفصليتين من التاريخ مركز ثقل العالم المعروف. مرة حين كانت بابل عاصمة السياسة والقانون والمعرفة، ومرة حين كانت بغداد العباسية قلب القرار والاقتصاد والعلم من الصين حتى الأندلس. بين هاتين اللحظتين، كُتبت فكرة “الدولة” و”الإمبراطورية” و”الإدارة” بلغة عراقية خالصة.
لكن المفارقة القاسية اليوم أن العراق، الذي حكم العالم مرتين، يقف الآن عالقًا بين احتلالين… أحدهما ظاهر، والآخر أشد خطورة لأنه يتخفّى بلباس “الشرعية”.
العراق حين كان مركز العالم
في زمن بابل، لم يكن العراق مجرد أرض، بل منظومة حكم. شريعة حمورابي لم تكن قانون مدينة، بل مرجعًا أخلاقيًا وسياسيًا لتنظيم المجتمعات. هنا وُلد مفهوم الدولة المركزية، والاقتصاد المنظم، والمدينة بوصفها كيانًا سياسيًا لا تجمعًا سكانيًا عشوائيًا.
ثم جاءت بغداد العباسية، لا كعاصمة خلافة فحسب، بل كعاصمة للعالم. القرار السياسي، حركة التجارة، العلم، الترجمة، الفلسفة، والمال… كلها كانت تمر من هنا. لم يكن العالم يُدار بالسيف وحده، بل بالعقل، وكانت بغداد مختبر الأفكار الكونية.
السقوط ليس صدفة
ما جرى بعد ذلك لم يكن “انحطاطًا طبيعيًا” كما تحاول بعض القراءات تبسيطه. سقوط بغداد لم يكن سقوط مدينة، بل كسر مركز. منذ تلك اللحظة، بدأ العراق يُعامل بوصفه خطرًا محتملًا لا يُسمح له بالعودة إلى موقعه الطبيعي. كل قوة دولية صاعدة كانت تفهم هذه الحقيقة: العراق إذا استعاد دولته، سيخلّ بتوازنات الإقليم والعالم.
الاحتلال الأول: الاحتلال المباشر
احتلال 2003 لم يكن فقط غزوًا عسكريًا. كان تفكيكًا ممنهجًا لفكرة الدولة:
حلّ الجيش، ضرب المؤسسات، تشريع الفوضى، وإعادة تركيب السلطة على أساس الهويات لا المواطنة. كان الهدف واضحًا: عراق بلا مركز، بلا قرار، بلا قدرة على استعادة دوره.
الاحتلال الثاني: الاحتلال بالوكالة
الأخطر من الاحتلال العسكري هو الاحتلال الذي جاء بعده. احتلال بلا دبابات، بل بجماعات مسلحة . بلا حاكم عسكري، لكن بطبقة سياسية مرتبطة بالخارج. هنا تحوّل العراق إلى ساحة نفوذ، تُدار قراراته بين عواصم متعددة، وتُفرض عليه أولويات لا علاقة لها بمصالح شعبه.
هذا الاحتلال الثاني يتغذّى على:
شرعية مصطنعة لا تأتي من الشعب
سلاح خارج الدولة
خطاب ديني وطائفي لتبرير الارتهان
نظام سياسي مصمم لمنع ظهور دولة قوية
بين احتلالين… ضياع الإرادة
العراق اليوم لا يعيش سيادته، ولا يعيش حتى احتلالًا واضح المعالم يمكن مقاومته. هو في المنطقة الرمادية:
دولة على الورق، وسلطة بلا قرار.
انتخابات بلا تغيير، وحكومات بلا مشروع.
شعب يدفع الثمن، ونخب تحتمي بالخارج.
لماذا يُخاف من العراق؟
لأن العراق إذا استعاد دولته:
سيكسر معادلات النفوذ في المنطقة
سيعيد تعريف التوازن بين الشرق والغرب
سيعيد الاعتبار لفكرة الدولة الوطنية القوية في عالم عربي أُريد له التفكك
لهذا لا يُسمح له بالنهوض الكامل، ولا يُترك ليسقط نهائيًا. يُدار في حالة “اللا حل”.
الخلاصة
العراق الذي حكم العالم مرتين، لا تنقصه القدرة ولا التاريخ ولا الإنسان. ما ينقصه هو تحرير الإرادة:
تحريرها من الاحتلال الخارجي،
ومن الاحتلال الداخلي الأخطر… احتلال التبعية والخوف.
وحين يُطرح السؤال الحقيقي:
من يحكم العراق؟
عندها فقط يبدأ الطريق نحو استعادة بلدٍ لا يُفترض به أن يكون هامشًا في تاريخ صنعه هو بنفسه.

