كتب الأستاذ درويش الجميل في برنامجه الشهير “نافذة على التاريخ” الذي كان يُبث في سبعينات القرن الماضي من اذاعة الكويت. مقولة تختزل جوهر التاريخ الإنساني:
“الحاضر غرس الماضي، والمستقبل جني الحاضر، والتاريخ سجل الزمن؛ لحياة الشعوب والأشخاص والأمم، التاريخ: هو الحضارة وتطورها، هو الإنسانية وتقدمها، هو العلاقات البشرية ومسيرتها.”
ولو تأملنا هذه الحكمة بعمق، لوجدناها تنطبق تمامًا على العراق، الذي لم يكن يومًا خارج دائرة التأثير التاريخي. فمنذ عقود، كان هذا البلد ميدانًا لصراعات وحروب طاحنة، شكلت واقعه الحالي ورسمت مستقبله بطريقة مأساوية.
إرث الماضي: جذور الأزمات الحالية
إن الحروب التي عصفت بالعراق لم تكن مجرد أحداث معزولة، بل امتدت آثارها لتصيغ واقعه الحالي. فمنذ الحرب العراقية-الإيرانية التي استنزفت مقدراته البشرية والاقتصادية، مرورًا بغزو الكويت وما تبعه من حصار اقتصادي قاسٍ لم يشهده شعب آخر في العصر الحديث، وصولًا إلى الغزو الأمريكي عام 2003 الذي أسقط الدولة ومزق النسيج الوطني، ظل العراق يتأرجح بين الفوضى والتدخلات الخارجية.
ولم يكن الغزو الأمريكي مجرد احتلال عسكري، بل كان نقطة تحول جذري زرعت بذور الانقسام الطائفي، وأتاحت الفرصة لصعود الأحزاب الإسلامية، السنية والشيعية، التي كانت ولا تزال تدين بالولاء لإيران أكثر من ولائها للعراق.
الحاضر: حصاد مرٌ من غرس الماضي
إن العراق اليوم يعيش حصاد تلك المراحل، حيث انحدرت العملية السياسية إلى مستنقع المحاصصة والفساد، وتحولت الدولة إلى ساحة نفوذ لقوى إقليمية ودولية، أبرزها إيران التي تمكنت عبر أدواتها السياسية والعسكرية من بسط سيطرتها على المشهد العراقي.
أما الشعب، فقد دفع الثمن الأكبر، إذ بات يعاني من انهيار البنية التحتية، وانعدام الخدمات، وانتشار الفقر والبطالة، رغم ثروات العراق الهائلة. لقد أصبح العراقيون رهائن لمعادلة سياسية غير عادلة، فرضتها ظروف الماضي وأنتجتها حسابات المصالح الدولية.
المستقبل: هل يمكن كسر الحلقة المفرغة؟
إذا كان الحاضر هو جني الماضي، فإن المستقبل لن يكون سوى انعكاس لما نزرعه اليوم. وبالنظر إلى الواقع الحالي، يبدو أن العراق ما زال عالقًا في دوامة التاريخ، حيث تتكرر نفس الأخطاء وتُعاد نفس السياسات التي أوصلته إلى هذا الوضع.
لكن، ورغم كل هذا السواد، يبقى الأمل معقودًا على وعي الشعب وإرادته. فكلما زاد الإدراك بأن العراق يجب أن يتحرر من قبضة الماضي، ويؤسس لمستقبل يقوم على المواطنة لا الطائفية، والسيادة لا التبعية، زادت فرص الخروج من هذا النفق المظلم.
المعضلة الكبرى: غياب الرؤية الوطنية الشاملة
ورغم كل ما مر به العراق من أزمات، فإن المعضلة الأبرز اليوم ليست فقط في إرث الماضي أو تحديات الحاضر، بل في غياب رؤية وطنية جامعة تضع العراق على مسار واضح نحو مستقبل أفضل. الحراك السياسي الوطني، رغم وجود شخصيات وطنية مخلصة، لا يزال عاجزًا عن بلورة مشروع حقيقي قادر على جمع العراقيين تحت راية واحدة.
فالمشهد السياسي يعاني من التشرذم، والانقسامات الأيديولوجية، وضعف التنسيق بين القوى الوطنية، وهو ما يمنع ظهور مشروع وطني شامل يُجمع عليه الشعب كطريق للخلاص. ورغم الدعوات المتكررة إلى تجاوز الخلافات والتركيز على بناء الدولة، إلا أن الانقسامات والولاءات الخارجية تظل العائق الأكبر أمام أي نهضة حقيقية.
إن بناء رؤية وطنية واضحة يتطلب تجاوز الحسابات الحزبية والطائفية، والارتكاز على أسس دولة المواطنة، والعدالة الاجتماعية، واحترام الإرادة الشعبية، وإعادة العراق إلى موقعه الطبيعي كدولة ذات سيادة قادرة على تحديد مصيرها بعيدًا عن التدخلات الخارجية.
لا عجب فيما وصل إليه العراق اليوم، فكما قال درويش الجميل: “الحاضر غرس الماضي، والمستقبل جني الحاضر.” وما دام العراق قد عاش حروبًا وحصارًا وغزوًا وتدخلات، فلا غرابة في أن يكون اليوم رهينة تلك التراكمات.
لكن المأساة الحقيقية ليست فقط في التاريخ الذي ألقى بظلاله على الحاضر، بل في غياب رؤية مستقبلية تنقذ العراق من هذا المصير. فالعراق اليوم بحاجة إلى مشروع وطني جامع، وإرادة سياسية حقيقية، وقيادة قادرة على استنهاض الهمم، حتى لا يبقى أسيرًا لدوامة الماضي، بل يصبح صانعًا لمستقبله.
السؤال الحقيقي: متى يتحول العراقيون من متلقين لتأثيرات التاريخ إلى صناع له؟ الإجابة تكمن في قدرتهم على تجاوز خلافاتهم ورسم ملامح عراق جديد، عراق يعكس تطلعات شعبه، وليس مصالح القوى التي تحكمه.