د. لؤي الخطيب |..
تصادف اليوم الذكرى السنوية العشرون على سقوط النظام البعثي الذي حكم العراق بالدكتاتورية والاستبداد منذ عام ١٩٦٨ وحتى نهايته في صبيحة التاسع من نيسان عام ٢٠٠٣ على وقع دخول دبابات الاحتلال الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية.
سوف لن أتطرق في هذا المقال لمجمل الأحداث التي جرت بعد عام ٢٠٠٣، والذي أشبعها الكُتاب والباحثون نقداً وتحليلاً، ولن أتحدث عن حال العراقيين تحت وطأة النظام الصدامي الذي حكمهم بقبضة من حديد وأنهك البلاد والعباد بحروبه العبثية ومقابره الجماعية وسجون الرعب والتعذيب التي وثقتها منظمات حقوق الإنسان بالتفصيل الممل، لكنني سأعرّج على أبرز الإيجابيات والسلبيات التي واكبت عملية التغيير بالمؤشرات الرقمية المُعتمدة مقارنة بمؤشرات الماضي، لبيان الحقيقة عن الوهم، وبعيداً عن الآراء الشخصية التي قد يتحكم فيها الميل العاطفي.
بعد مرور عقدين من الزمن على سقوط النظام الدكتاتوري وما رافق مرحلة التغيير من تداعيات أمنية وتغيرات جذرية على النحو السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لا يزال الجدل قائماً بين أوساط بعض شرائح المجتمع حول جدوى التغيير ومدى تقدم أو تراجع العراق.
حسب استطلاعات الرأي التي أعدتها مؤسسة غالوب الدولية بهذه المناسبة، فإن العنوان العام الذي طغى على مجمل نتائج تقريرها قد اختزل المشهد في ٦٠٪ مؤيداً لأن وضع العراقيين كان أفضل حالاً قبل عام ٢٠٠٣ مقابل ٤٠٪ يرون أن أوضاع البلاد تحسنت بعد سقوط النظام ورغم كل العقبات.
هذه النسب تثير الكثير من التساؤلات والجدل حتى لو أخذت على محمل حسن الظن من مصدر الإعداد.
بعد مضي ثلاث سنوات انتقالية من تغيير النظام انتدبت سلطة الاحتلال الأمريكي خلالها إدارات وحكومات مؤقتة، طُرح استفتاء على دستور دائم للبلاد في عام ٢٠٠٥ ثم أقيمت أول انتخابات دستورية وُلدت من رحمها أول حكومة فيدرالية في عام ٢٠٠٦ انتقلت البلاد على إثرها من دولة مركزية إلى دولة اتحادية، ليعتمد العراق نظاماً ديمقراطياً يسمح بالتعددية السياسية ويتبنّى اقتصادَ السوق منهجاً ليُعلن النظام الجديد نهاية موروث الدكتاتورية والاشتراكية والمركزية، حيث صُرفت خلال عشرين سنة تلت التغيير قرابة ١٥٠٠ مليون دولار أمريكي من موازنات الدولة الاتحادية جلها من واردات النفط التي ساهمت في عمليات إعادة الإعمار.
لكن رغم كل هذه الواردات العملاقة والتقدم الذي واكب ولادة العملية السياسية الجديدة، تعثرت مسيرة البلاد بسبب بدايات غير موفقة وأخطاء فادحة ارتكبها آباء هذه العملية من ضمنها حل الجيش العراقي السابق وتفكيك المؤسسات الأمنية السابقة مما دفع بمنتسبيها إلى الالتحاق بالمجاميع المسلحة المعارضة لنظام الحكم الجديد، وكذلك تسييس آليات المساءلة والعدالة التي قادت إلى الاقتصاص والإقصاء السياسي، فضلاً عن اعتمادهم المحاصصة الطائفية في تقاسم السلطة ومرافق جميع المؤسسات في هرم الدولة، حتى تحكمت واستحكمت الفئوية السياسية بأعلى منصب تنفيذي وتشريعي وقضائي وانتهاءً بأبسط موظف على الملاك الوظيفي للدولة.
هذه السياسات الارتجالية والمحاصصة الفئوية خلقت أساساً ركيكاً لدولة هشة ومخترقة أمنياً وسياسياً ومستنزفة مالياً، متعددة الانتماءات وفاقدة للهوية الوطنية مما شجع على تفشي سوء الإدارة والفساد والتخادم النفعي لأغلب منتسبي مؤسسات القطاع العام وعلى كل المستويات، فضلاً عن ممارسات غير محسوبة سارعت في فتح جبهات مواجهة أخلت بالأمن العام وزادت من تكاثر خلايا الإرهاب وصولاً إلى أزمة داعش وسقوط المدن تحت احتلال قوى الإرهاب.
كما شجعت الطبقة السياسية على شرعنة الحكم باستغلال النظام الديمقراطي في شراء الولاءات وخلق دولة زبائنية من خلال التوظيف الحكومي مقابل الانتماء السياسي، وهذه كانت رُشى موسمية تقدمها أغلب الحكومات لكبح جماح الاحتجاجات الشعبية وكسب القواعد الجماهيرية في مواسم الانتخابات العامة. ولا ننسى إقحام المرجعية الدينية في النجف الأشرف بكل صغيرة وكبيرة حتى أوصدت المرجعية أبوابها بوجه السياسيين عام 2010 ولم تتدخل إلا لانتشال العراق في الأوقات المصيرية من حافة الانهيار كوأدها للفتنة الطائفية في حادثة تفجير الروضة العسكرية في سامراء عام 2007 وإصدارها فتوى الجهاد الكفائي للملمة شتات القوات المسلحة بعد انهيارها إثر اجتياح عصابات داعش لأربع محافظات عراقية.
لقد استغلت بعض القوى السياسية واردات النفط بأبشع صورة للسيطرة على مقدرات الخزينة الاتحادية من خلال اقتصادياتها الحزبية ورجالاتها في الدولة العميقة محمية بالمجاميع المسلحة الموالية لها واللجان النيابية والأجهزة الرقابية الحامية للتحالفات الحاكمة بعد أن تحاصصوا على التخصيصات المالية للوزارات وشركات القطاع العام. حيث خلقت هذه الفوضى دولة الأوليغارشيا الموازية بكل ما تمتلكه من حضور سياسي بأعلى المناصب وبحيازة ترسانة سلاح منفلت وإمبراطوريات إعلامية توجه الرأي العام وعلاقات خارجية لا تخضع لأي مساءلة ولا يمكن المساس بمصالحها حتى أصبحت تُعرف بالخطوط الحمر.
كل هذا وغيره خلق جواً شعبياً وشعبوياً عاماً ضد الأحزاب والعملية السياسية خصوصاً بين أوساط الشباب الذي يُشكل 60% من المجتمع العراقي مما زاد وتيرة الاحتجاجات ورفع سقف المطالب منذ عام 2011 وحتى تشكيل آخر حكومة في تشرين الأول 2022.
لكن رغم كل هذه التحديات والتشظي، لم يصل العراق في ظل النظام الحالي إلى ما وصل إليه قبل 2003 من سوداوية في عهد الدكتاتورية، على مستويات العنف والظلم وتغييب الحريات وغياب الخدمات وسلب الحقوق وانتهاك كرامة الإنسان.
وبإجراء مقارنة سريعة بالعهد البائد فقد ارتفع الناتج المحلي إلى عشرة أضعاف، وازداد دخل الفرد السنوي إلى ستة أضعاف، وارتفع انتاج النفط إلى ثلاثة أضعاف، وإنتاج الغاز إلى ستة أضعاف، والطاقة التكريرية إلى الضعف، والطاقة الكهربائية الى سبعة أضعاف، حتى أعداد النخيل ارتفعت للضعف، كما انخفضت ديون العراق بنسبة 33% وارتفع الاحتياطي النقدي إلى 115 مليار دولار واحتياطي الذهب إلى 135 طناً بعد أن كانت هذه الأرقام تحت الصفر في صبيحة 2003. هذا فضلاً عن التوسع العمراني وتحسن سلم الرواتب، بعد أن كان الراتب الشهري للموظف لا يتجاوز دولاراً واحداً, كما أن مساحة الحريات والتعبير عن الرأي اتسعت بعد أن كانت معدومة في زمن الدكتاتورية حتى بات عامة الناس وبسطاؤهم ينتقدون أعلى مسؤول تنفيذي دون خوف.
لذا علينا أن نتأمل كيف سيكون حال العراق إذا ما انعدمت مظاهر الفساد والمحاصصة بعد مرور عقدين من الزمن!!
لعل الغاضب مما يحدث في المشهد العراقي من غياب للعدالة الاجتماعية وتفشي الفساد مقارنة بالدول الديمقراطية الناجزة يُعبر عن غضبه بالتحيز إلى الماضي، ربما ليس حباً به بل نكاية بالحاضر، خاصةً أن معظم المعارضين للطبقة السياسية هم من الشباب الذين لم يشهدوا عذابات العهد الدكتاتوري الذي أذاق العراقيين جحيم الحروب والظلم وضنك العيش.
لذا وجب على الطبقة السياسية قراءة تطلعات الشعب بجدية وأن لا تختبر صبرهم أكثر، خصوصاً أن العالم مُقدم على تغيرات سياسية واقتصادية وتكنولوجية بعد جائحة كورونا وانهيار المؤسسات المالية وتفاقم النزاعات العسكرية واستحواذ الذكاء الاصطناعي على فرص العمل التقليدية مما سيؤثر حتماً على طبيعة الحياة الاجتماعية ومصالح الشعوب ما سيولد تهديداً على السلم الأهلي والأمن الغذائي وأمن الطاقة بشكل عام.
وحتى يتحول العراق إلى دولة رصينة وديمقراطية ناجزة واقتصاد حر يوفر العدالة الاجتماعية للجميع ويضمن التداول السلمي للسلطة عملياً بعيداً عن سياسة الاقتصاص والانتقام، على الطبقة السياسية العمل بمسؤولية تجاه أولويات بناء الدولة وتطبيق مضامين الدستور الاتحادي وتشريع قوانينه المعطلة وإلغاء موروث قوانين العهد البائد التي تصطدم بالديمقراطية والنظام الاتحادي، وكذلك ترسيخ الهوية الوطنية باعتماد عقد اجتماعي يؤسس لمرحلة جديدة تضمن حقوق الشعب والأجيال القادمة.
جدول المؤشرات الاقتصادية لعام 1979 حين تسنم صدام حسين رئاسة العراق، ولعام 2003 حين انهار نظامه، ولعام 2023 بعد مرور عقدين من الزمن على التغيير السياسي
المؤشر | سنة 1979 | سنة 2003 | سنة 2023 |
النسمة السكانية | 13،3 مليون | 27 مليون | 43 مليون |
الناتج المحلي | 37 بليون دولار | 22 بليون دولار | 222 بليون دولار |
معدل دخل الفرد السنوي | 2850 دولار | 800 دولار | 4800 دولار |
احتياطي البنك المركزي | 37 مليار دولار | صفر | 115 مليار دولار |
احتياطي الذهب | 130 طن | صفر | 135 طن |
الدين العام | 2 مليار دولار | 160 مليار دولار | 117 مليار دولار |
قيمة الدينار العراقي | 3،3 دولار | 3000 دينار للدولار | 1300 دينار للدولار |
انتاج النفط | 3،9 مليون ب/ي | 1،5 مليون ب/ي | 4،5 مليون ب/ي |
انتاج الغاز سنوياً | 1 مليار متر مكعب | 2 مليار متر مكعب | 12 مليار متر مكعب |
انتاج الكهرباء | 1،4 غيغا واط | 3،5 غيغا واط | 25 غيغا واط |
الطاقة التكريرية | 320 ألف ب/ي | 400 ألف ب/ي | 700 ألف ب/ي |
عدد النخيل | 30 مليون نخلة | 10 مليون نخلة | 20 مليون نخلة |
استيراد الحبوب | 2،3 مليون طن | – | 3،5 مليون طن |
عدد الموظفين الحكوميين | 665 ألف | 950 ألف | 4 مليون |
معدل المعرفة | 41% | 74% | 77% |
تصنيف القوات المسلحة | 27 | – | 45 |
خاص لــ”جريدة”..