في قلب المنطقة العربية، حيث يلتقي التاريخ بالجغرافيا، يبرز العراق كواحدة من أغنى بلدان العالم بالثروات والموارد الطبيعية. لكن، في الوقت ذاته، يتجسد العراق في معاناة لا تنتهي، حيث تُنهب ثرواته ويُستنزف شعبه نتيجة صراعات لا حول له فيها ولا قوة. أصبحت مأساة العراق اليوم نموذجًا صارخًا حول كيفية إدارة الصراعات الدولية والإقليمية حول الثروات، وكيف يتم إضعاف أمة عظيمة تحت وطأة طامعين لا يشبعهم شيء.
من بين كل القوى الطامعة، برزت إيران كأكبر اللاعبين الذين يصرون على تحويل العراق إلى مزرعة مفتوحة لا سيادة لها. منذ لحظة سقوط بغداد في 2003، خطت طهران خطوة تاريخية نحو تحقيق حلمها الذي طالما سعت إليه باستخدام القوة، حتى وجدت الفرصة أخيرًا بعد سقوط النظام العراقي. العراق الذي كان يومًا ما يشكل تهديدًا حقيقيًا لإيران، أصبح فجأة ساحة مفتوحة للطامعين.
من خلال أدوات متعددة؛ ميليشيات، سلاح، أيديولوجيا، وطبقة سياسية تم تجنيدها لخدمة مشروع “الولي الفقيه”، سيطرت طهران على مفاصل الدولة العراقية، وأصبحت تتحكم في القرار السياسي والاقتصادي بشكل شبه كامل. لم يعد العراق مجرد جار ضعيف، بل أصبح حقل غنائم طهراني، تموّل من خلاله طهران اقتصادها الذي يعاني من أزمات خانقة، وتؤمن لها عمقًا استراتيجيًا بلا تكلفة عسكرية تُذكر.
اليوم، يبدو أن العراقيين على أعتاب مرحلة جديدة قد تكون أكثر مرارة من أي وقت مضى. ففي الكواليس، يتردد الحديث عن صفقة محتملة بين طهران وواشنطن، حيث تسعى إيران لإقناع الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، المعروف ببراغماتيته، بأن تبقي على نفوذها في العراق مقابل ثمن ضخم قد يقدّر بأربعة تريليونات دولار. وهذه الأموال، رغم حجمها الكبير، لا تأتي من خزينة إيران، بل من دماء العراقيين، ونفطهم، ومستقبلهم الذي يضيع في صفقات هزيلة.
ترامب، الذي لا يهتم بالمبادئ بقدر اهتمامه بالأرقام والعقود المربحة، قد يرى هذه الصفقة بمثابة “تسوية عظيمة” لأمريكا. أما إيران، فهي تدرك تمامًا أن الحفاظ على وجودها في العراق يتطلب دفع ثمن سياسي للولايات المتحدة مقابل تحقيق مكاسب اقتصادية. ولكن، في هذه الصفقة، ليس فقط مصالح إيران والولايات المتحدة ما يجب أن يُراعى، بل أيضاً الضغط الإسرائيلي الذي يفرض نفسه بقوة على مجريات الأمور.
إسرائيل، التي تعتبر إيران تهديدًا وجوديًا، ليست مستعدة لتمرير أي تسوية دون ضمانات قوية لأمنها. من هذا المنطلق، فإن الحفاظ على التوازن الإقليمي في صالح إسرائيل يُعد حجر الزاوية في أي اتفاق مع طهران. الولايات المتحدة، بضغط من تل أبيب، تجد نفسها مضطرة لضمان ألا تُؤثر الصفقة على التفوق العسكري والأمني الإسرائيلي في المنطقة. أي تنازل قد يحدث في الملف العراقي لا بد أن يُراعي، وبشكل صارم، أمن إسرائيل واستقرارها.
وإذا ما تم التوصل إلى هذه الصفقة، فإن ما تبقى من السيادة العراقية قد يصبح سرابًا، ولن يقتصر الأمر على تبادل المصالح بين طهران وواشنطن، بل سيتحول العراق إلى ورقة مساومة ليس فقط بين هاتين القوى، بل أيضاً ضمن معادلة إقليمية أوسع تشمل حسابات إسرائيلية دقيقة، قد تُصادر من خلالها سيادة العراق بالكامل.
العراق، الذي كان يومًا ما رمزًا للمقاومة والكرامة، قد يتحول إلى ورقة تفاوض في يد قوى دولية لا تعبأ بمستقبل شعبه. الشعب العراقي الذي يعاني يومًا بعد يوم من الفقر، والتهجير، والبطالة، قد يجد نفسه أمام خيار مؤلم: إما الرضوخ لما يُفرض عليه من الخارج، أو الاستمرار في دفع ثمن صراع قد يدوم عقودًا أخرى.
وفي هذه اللحظات الحرجة، تبدو الساحة العراقية على أعتاب مواجهة كبرى. هل ستنجح الصفقة، أم أن العراقيين سينهضون ضد هذا الواقع المُرّ؟ الإجابة على هذا السؤال لن تأتي من طهران أو واشنطن، بل من وعي الشعب العراقي، ومن وحدتهم، من شوارع بغداد وأربيل والنجف، ومن تلك الساحات التي لطالما شهدت صرخات الحرية.
اليوم، يتساءل العراقيون: هل نقترب من لحظة المواجهة الكبرى التي ستحدد مصير العراق للأبد؟ أم أن هذه الصفقة ستُمرر كما مرّت غيرها من الصفقات السابقة؟ في النهاية، سيظل العراق ملكًا لأبنائه، ولن تفرض عليه الصفقات الدولية ما لا يريد.