هكذا وصف هنري كيسنجر، أحد أعمدة السياسة الخارجية الأمريكية، العراق في كتابه “السياسة الخارجية الأمريكية في القرن الواحد والعشرين”، حين قال: “العراق دولة لا يمكن تجاهلها، فهو مخيف حين يكون قويًا، ومرعبًا حين يكون ضعيفًا.” هذا الوصف لم يأتِ من فراغ، بل يُجسّد الحقيقة الجيواستراتيجية العميقة التي يمثلها العراق عبر التاريخ، والقلق الدولي المزمن من عودته كقوة محورية في المنطقة .
فالعراق ليس دولة عادية تقف على هامش التاريخ أو الجغرافيا، بل هو قلب المشرق، ومفتاح التوازن الإقليمي، وجمجمة العرب كما وصفه الخليفة عمر بن الخطاب، الذي أدرك مبكرًا أن سقوط العراق هو بداية لاختلال التوازن العربي برمته. فمنذ السلالات السومرية والأكدية والبابلية، كان العراق مهد الحضارة ومركز القرار، ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف عن لعب أدوار كبرى إقليميًا ودوليًا.
الأهمية الجيوسياسية .
يتميّز العراق بموقع استراتيجي فريد يجعله حلقة وصل بين الخليج وبلاد الشام وإيران وتركيا. يتحكم بممرات النفط، ويملك ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم، وهو ما يجعله مطمعًا لقوى كبرى، ولاعبًا لا يمكن تجاوزه في معادلات الطاقة العالمية. إضافة إلى ذلك، يشكّل العراق توازنًا طائفيًا ومذهبيًا، وغيابه أو ضعفه يؤدي إلى تمدد قوى إقليمية أخرى على حسابه، كما هو الحال اليوم مع إيران وتركيا .
الإرث الحضاري والهوية العميقة .
العراق ليس مجرد خزان نفطي أو معبر جغرافي؛ إنه أمة ذات حضارة عريقة، من أوروك إلى بغداد، من حمورابي إلى المأمون. إنه المكان الذي كُتبت فيه أولى الشرائع، وشُيّدت فيه أولى المدن، وتلاقحت فيه الأديان والثقافات. هذا الإرث الثقافي والحضاري هو بحد ذاته تهديد للقوى التي تبني نفوذها على ضعف الشعوب وتجهيلها. فنهضة العراق ليست مجرد انتعاش اقتصادي أو استقرار أمني، بل هي عودة لوعي حضاري قادر على إعادة رسم ملامح المنطقة.
لماذا يخشونه؟
الجميع يخشى العراق، والجميع يحذّر من نهضته، لأن عراقًا قويًا يعني استقلال القرار العربي، وتوازنًا مع إيران وتركيا وإسرائيل، وقطع الطريق على المشاريع الطائفية والتفتيتية. أما عراقًا ضعيفًا، فهو ساحة صراع، وميدان لتصفية الحسابات، وأداة يستخدمها الآخرون في مشاريعهم.
فالقوى الدولية التي أسهمت في تفكيك العراق بعد 2003، لم تكن تتحرك بدافع الديمقراطية أو حقوق الإنسان، بل خشية من عراق قوي، قد يستعيد إرثه، ويفرض معادلة جديدة في المنطقة. ولهذا، لم يُسمح له بالنهوض، رغم الإمكانات والثروات والشعب الذي يملك من الوعي والإرادة ما يفوق حكامه.
الوضع الإقليمي وتأثير العراق فيه .
في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة، لا يمكن استبعاد العراق من أي معادلة تُرسم للمنطقة، بل إن موقعه يجعله في صميم كل تغيير. فمع تصاعد التوتر بين المحاور الإقليمية—محور التطبيع والسلام بقيادة دول الخليج وإسرائيل، ومحور المقاومة المرتبط بإيران—يقف العراق في تقاطع حساس. لا هو منخرط بالكامل في هذا أو ذاك، ولا هو قادر على رسم طريق مستقل في ظل ضعف الدولة وتعدد مراكز القرار .
رغم ذلك، فإن العراق ما زال يحتفظ بعوامل قوة كامنة، أبرزها شعبه الشاب والواعي، وغناه الطبيعي، وموقعه الرابط بين المشرق والخليج. فالقوى الكبرى، سواء واشنطن أو طهران أو أنقرة، تتعامل معه بحذر، لأنهم يدركون أن استقرار العراق أو انفجاره سيكون له تداعيات تتجاوز حدوده .
دول الخليج، من جهتها، تنظر إلى العراق باعتباره الحاجز الذي إن استعاد عافيته، سيمنع تمدد النفوذ الإيراني غربًا. أما إيران، فتراه العمق الذي لا يمكنها التخلي عنه إن أرادت الاحتفاظ بممراتها نحو سوريا ولبنان. بينما تركيا تتربص بدورها، وتراهن على ضعف بغداد لتعزيز نفوذها في الشمال تحت ذريعة حماية أمنها القومي .
لكن يبقى الخطر الأكبر أن يبقى العراق أداة، لا فاعل. وهذا ما يدفع الدول الفاعلة إلى إبقائه في حالة “لا حرب ولا سلم”، خشية أن ينهض، وخشية أن ينهار، فكلا السيناريوهين لا يمكن التنبؤ بعواقبهما .
العراق هو عقدة الجغرافيا، وروح التاريخ، ورهان المستقبل. لا يمكن تجاهله، ولا يمكن السيطرة عليه إلى الأبد. وكما هو مخيف حين يكون قويًا، فإنه مرعب حين يكون ضعيفًا، لأن هشاشته تصدّر عدم الاستقرار للمنطقة والعالم. العراق لا يحتاج فقط إلى إعادة بناء، بل إلى تحرير إرادته الوطنية، واستعادة مكانته الطبيعية، كدولة ذات هوية، وقوة، وتأثير .