إياد العنبر06 يونيو 2021
عجزُ الدولة في إدارة الملف الأمني هو من أهم الدلالات على هشاشتها، ويبدو أن هذا الموضوع هو تراكمات الأزمة المستدامة للدولة في العراق مع اختلاف التحديّات، سواء أكانت مواجهة الجماعات الإرهابية ونشاطاتها، أو فشل هذه المؤسسة في العمل على أسس مهنية، أو وجود قوى تحمل السلاح وتريده أن يكون أعلى من سلاح الدولة، وتشرعن وجودها بصيغة الأمر الواقع، وتتحوّل إلى قوى موازية للدولة.
هذا الواقع الذي تعيشه دولتنا الهشّة أنتج تجربة هجينة للأمن، تجمع بين المؤسسات الأمنية الرسمية التي تقوم بوظيفة احتكار العنف المنظّم، وبين جماعات مسلحة أنتجتها فترة الانتقال من نظام إلى آخر.
وعموماً، جميع تجارب تهجين الأمن اتجهت حتماً نحو الحرب الأهلية، أو التصادم مع الحكومات التي تأتي عن طريق المؤسسات الشرعية وتريد ضبط الأمن.
من تجارب تهجين الأمن في العراق وجود مؤسستين تابعتين رسمياً للدولة، لكنهما لا تخضعان تماماً لإدارة الحكومة، الأولى: قوات البيشمركة، أو حرس اقليم كردستان؛ والثانية: الحشد الشعبي. كلاهما نتاج لظروف وحاجة أمنية محددة، لكن التوظيف السياسي لهما جعلهما تعملان بمنطق متناقض: فهما قانونياً ودستورياً يفترض أن تكونا تحت إمرة القائد للقوات المسلحة، وتموّلان من الميزانية العامة للدولة. لكنهما عمليا نجدهما مؤسستين تخضعان لزعامات سياسية وقيادات تريد تثبيتهما كقوى موازية للدولة، وأحياناً فوق الدولة.
قد تختلف تجربة تشكيل البيشمركة، كونها ترتبط بمرحلة ما قبل 2003، وجرى التعامل معها كونها واقع حال، حالها حال فيدرالية إقليم كردستان. أما تجربة الحشد الشعبي، فيجب النظر إليها من منظور الجماعات الصاعدة في فترة الانتقال السياسي، ولذلك يجب التفكير بمعالجة وضعها من خلال ضمان مصالح الجماعات المرتبطة بالحشد، سواء أكانوا زعامات أصبحت سياسية بعنوان الحشد الشعبي، أو أفراداً ينتمون لهذه المؤسسة.
وهذه النقطة تحديداً هي الإطار الواقعي الذي يفترض في دائرته عن طرح مستقبل الحشد، بعيداً عن سجالات شرعيته التي يسوقها زعمائه بأنها تستمد من منجز تحقيق النصر ضد تنظيم داعش الإرهابي؛ لأن جميع صنوف القوات الأمنية ساهمت بتحقيق النصر، ولا يمكن أن يختزل بتشكيل أمني دون آخر، أو مرتبط بفتوى المرجع الشيعي الأعلى، السيد علي السيستاني، التي كانت واضحة وصريحة، إذ نصت الفتوى على دعوة “للمواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعاً عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم، إذ عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية”، وليس ضمن تشكيل أمني مستقل يراد من خلاله تثبيت وتهجين الأمن لغايات سياسية تنعكس الآن على العلاقة بين الزعامات السياسية التي تمثل فصائل مشاركة بالحشد وبين القائد العام للقوات المسلحة.
معضلة الأمن الأولى في العراق هي الصراع بين رؤيتين، الأولى مركزيته، وهي الأضعف، وهي كانت ولا تزال رغبة من دون أن تكون هناك إرادة لتنفيذها. والثانية تجزئته، وهنا تجتمع رغبات متناقضة في الغاية، لكنها متفقة بالوسائل.
والأمن في العراق متداخل في ملف الصراعات والتجاذبات السياسية، ولذلك يستحيل ويستعصي ويصبح بعيد المنال عندما تركن القوى السياسية الفاعلة وصاحبة الأمر إلى مخاوفها، ومن ثم الأطر السياسية الحاكمة للبلد باتت تثبت كل يوم عجزها وعقم آفاقها، وأحسن ما تستطيع عمله هو التساكن والتعايش مع الفوضى الأمنية التي يعبر عنها السلاح المنفلت، ومحاولة ضبطه من أن يصل للحظة اللاعودة، دون أن يكون هناك مشروع حقيقي لحوكمته ووضع حد لتهجينه.
تهجين الأمن بات يؤثر على الأداء المهني للمؤسسات العسكرية والأمنية، لأن هذه المؤسسات تدار بطريقة المزاج الشخصي للقائد العام للقوات المسلحة وتأثيرات التفكير المأزوم لمنظومة السلطة وهواجسها ومخاوفها، التي تكون أسيرة الشكوك وعدم الثقة المتبادلة، وتحسب أي فعل بمقدار خسارتها وربحها وليس بما يربحه الوطن من الاستقرار الأمني. لذلك عملت الطبقة السياسية على إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية بطريقة التهجين، سواء أكان ذلك بعملية دمج أتباع أحزابها أو زبائنها برتب عالية، أو تشكيلات تنتمي ظاهراً لمؤسسات الدولة وتمول من ميزانيها، لكنها عملياً تأتمر بأوامر زعاماتها وتشكل واقعاً قوى موازية للدولة.
للقوى الموازية للدولة في العراق منطق مزدوج، يجمع بين الاستقلالية والتبعية؛ فهي تتأسس وتنمو وفق مبدأ الانشطار من تشكيل مسلح قديم، ويتم ذلك بدعم من إرادة خارجية تريد تفكيك المنظمة الأم حتى لا تسمح لها بالاستقواء، ومن ثم تبقى خيوط اللعبة بأيديها وتبقى بيادق النفوذ الخارجي. وبعد صعود هذه الجماعات تبدأ بالهيمنة على منافذ الاقتصاد الريعي التي تؤمن ديمومة بقائها وزيادة قوة نفوذها المالي، الذي يسمح برفع الدعم الخارجي على المستوى المالي وابقاء الدعم السياسي.
إذاً، عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج قد تكون خيارات مطروحة للنقاش، لكنها لن تنتج الاستقرار السياسي والأمني، فصراع الإرادات بين زعماء الفصائل والحكومة الحالية ومن يدعمها قد أصبح واضحاً ويمكن أن نصفه ببراميل بارود تنتظر الشرار لتنفجر معلنةً صداماً عسكرياً بين الفصائل المسلحة والحكومة، ومن ثم قد يتطور إلى صدام بين فصائل وأخرى تدعم الحكومة. ومن جانب آخر تُستثمر سياسياً من قبل حكومة إقليم كردستان باعتبارها ضمن سياسات تستهدف المكون الكردي. وقد تكون حكومة الكاظمي عاجزة عن إدارة ملف حوكمة الأمن، فهي عملية صعبة ومعقدة وتواجه الاعتراضات السياسية تفوق قدرة الكاظمي في إدارة هذا الملف.
رغم ذلك، فإن حوكمة الأمن أولاً وأخيراً يجب أن تبدأ من الأعلى، أي أن تقوم الحكومة بإدارتها وأن تكون من أولويات الحكومات القادمة، التي يجب أن تحقق التوازن بين الخيارات السياسية لإعادة الهندسة الأمنية والمواجهة المسلحة لفرض سيادة الدولة وقوانينها. والبداية الصحيحة تكون من إعادة النظر بالتشكيلات الأمنية وفك التشابك بينها، كما يحدث في إعادة النظر بقيادة العمليات التابعة لمكتب رئيس الوزراء.
أما التشكيلات الأخرى التي تكون مصدراً للتجاذب السياسي (كالحشد الشعبي والعشائري والبيشمركة الكردية)، فتحتاج إلى اتفاق سياسي يتبنى رؤية استراتيجية تقوم على أساس المساومات بين المصالح والمكاسب السياسية وبين امتلاك السلاح الذي يشكل قوة موازية لسلاح الدولة. وهذه الاستراتيجية لحوكمة الأمن لن تتحقق إلا بتوفير الدعم السياسي من القوى التي تؤمن بحصر السلاح بيد الدولة، والاستفادة من الإسناد الجماهيري لها، واقناع التدخلات الخارجية بأن حكومة قوية أفضل من حكومة متنازع على قدرتها في فرض الأمن والأمان.