العراق يقترب من العرب… ويناور مع طهران وواشنطن

1

شياع السوداني يعلن الافتتاح الرسمي (مكتب رئيس الوزراء)بغداد: «الشرق الأوسط»

صحيح أن إجراءات فتح العزلة بين العراق ومحيطه العربي بدأت على استحياء منذ سنوات، وبالذات منذ حكومة الدكتور حيدر العبادي مرورا بحكومة عادل عبد المهدي، إلا أنها تكرست إلى حد كبير خلال حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي. الكاظمي، الذي نجح في ملفات السياسة الخارجية للعراق ومنها مع المحيط الخليجي والعربي، مهد الطريق لما حصل بعده على هذا الصعيد، لا سيما مع موافقة دول الخليج العربي على تنظيم العراق بطولة «خليجي 25» (كأس دول الخليج العربي الـ25) لكرة القدم في مدينة البصرة بأقصى الجنوب العراقي. لكن الذي حصل عند بدء تنظيم البطولة وما رافقها من أجواء غير مسبوقة، خاصةً على صعيد العلاقة بين الجمهور الخليجي والعراقي كان أحد أبرز العوامل في طي صفحة الماضي تماماً، وبدء صفحة جديدة بين العراقيين وأشقائهم عرب الخليج.

تسمية بطولة «خليجي 25» باسم الخليج العربي أمر استفز إيران إلى درجة استدعاء السفير العراقي في طهران نصير عبد الحسين، وتسليمه رسالة احتجاج على التسمية. ومعلوم أن طهران بخلاف عواصم المنطقة العربية دأبت على إطلاق مسمى «الخليج الفارسي». وفي المقابل، بعد كل هذا النجاح الذي تحقق على صعيد البطولة حاولت الحكومة العراقية قدر الإمكان تحاشي استفزاز إيران، وهذا مع العلم أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أكد على أن العراق محيطه عربي وهو بلد عربي والمنظومة الخليجية عربية.

مع هذا، فإنه كلما بدت العلاقة مختلفة تماماً بين العرب والعراقيين، عمدت طهران إلى تصعيد احتجاجها في هذا الشأن مع أنها لم تقم بذلك طوال الدورات الأربع والعشرين الماضية. وهذا الأمر فسره المراقبون العراقيون على أنه احتجاج ليس على تسمية «الخليج» بـ«العربي» بقدر ما هو احتجاج على ما بدا تلاحماً عراقياً – خليجياً غير مسبوق. ورأوا أنه عملياً يعني فشل «مشروع إيران» الهادف إلى خلق العزلة العراقية – العربية، وتكريسها طوال عشرين سنة من الضخ السياسي والإعلامي… الذي انهار بمجرد بدء دخول الخليجيين جمهوراً وإعلاميين تخوم مدينة البصرة.

عراقيون يمرون قرب مبنى رُفعت عليه أعلام عملاقة للدول الخليجية في البصرة الخميس الماضي (أ. ف.ب)


– لا تصفير للأزمات

في العراق لا يجري عادة تصفير أي شيء، بدءاً من الموازنة المالية إلى الحسابات الختامية. وبسبب تراكم المشاكل وتوارث الأزمات لم يعد الناس يفرقون بين العام الذي يغاث فيه الناس وبين السنة التي هي غالبا ما تكون سنة قحط.

يحصل هذا في بلاد باطن أرضها مملوء نفطاً وظاهرها يمخر عبابها نهران سميت على مدى التاريخ باسميهما «بلاد الرافدين» مرة أو «بلاد ما بين النهرين» مرة أخرى و«أرض السواد» في كل المرات.

وفي أواخر عام 2021 تقدم ما نسبته 20 في المائة من العراقيين إلى مراكز الاقتراع من أجل الإتيان بحكومة جديدة، في حين آثر 80 في المائة منهم البقاء في منازلهم احتجاجا على حالة الديمقراطية وثقل الاحتلال وإشكالات الانتخابات والطبقة السياسية. وبينما كان ينبغي، طبقا لقواعد الديمقراطية الشكلية في العراق، أن يصار إلى تشكيل الحكومة في غضون ثلاثة أشهر كحد أقصى، تأخر التشكيل سنةً كاملة.

إذ أن الانتخابات أجريت يوم العاشر من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2022. وجرى التصويت على الحكومة التي ترأسها محمد شياع السوداني يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022. وبينما كان العراقيون يتطلعون إلى عام جديد بحكومة جديدة وبوعود جديدة نراهم اعتادوا على «متوالية» واحدة للفرح والحزن معاً. ولقد تجسد الفرح بالتحضير لبطولة «خليجي 25» لكرة القدم وما تضمره من نتائج لم تكن متوقعة لدى كل الأوساط، بينما أطل الحزن بتفجر ما عدت أكبر فضيحة فساد مالي في البلاد… استحقت عن جدارة لقب «سرقة القرن».

السرقة تلك أعلن عنها في «الوقت بدل الضائع» بين مغادرة الكاظمي وطاقمه الحكومي وبين مجيء السوداني وحكومته. ومن ثم، كاد «يضيع دم» تلك السرقة بين قبائل الفساد غير المسيطر عليه في العراق، وسط حملات متزايدة من تبادل التهم بين أنصار الحكومة السابقة ومؤيدي الحكومة اللاحقة.

السوداني، الذي واجهته الأزمات المتراكمة الجاري تدويرها سنة بعد أخرى، عمل على التعامل بهدوء مع الملفين الخارجي والداخلي. إذ أنه عزز علاقات العراق العربية عبر زيارات قام بها لكل من المملكة العربية السعودية والأردن، وأضاف لها الكثير مما يبدو استعداداً للتفاهم مع المحيط العربي بعد بدء بطولة «خليجي 25» بالبصرة، وتصريحاته التي بقدر ما قابلها العرب بود كبير فإنها استفزت طهران في المقابل.

المدونون والإعلاميون العراقيون، من جانبهم، قابلوا الاستفزازات الإيرانية باستغراب لجهة أنه لا حق لطهران في التدخل في قضية سيادية عراقية. وفي هذا الإطار قال الصحافي العراقي منتظر ناصر، رئيس تحرير جريدة «العالم الجديد» الإلكترونية لـ«الشرق الأوسط» إنه «لمن المستغرب استدعاء السفير العراقي في طهران، احتجاجا على استخدام رئيس الوزراء العراقي التسمية الرسمية للخليج العربي بدلاً من الفارسي». وأضاف «هذا الاستدعاء منافٍ للأعراف الدبلوماسية، وسابقة خطيرة تظهر مساعي إيران للتدخل والتحكم حتى في الخطاب الرسمي العراقي».

وتابع ناصر قائلاً إن «الدول حرة في تسمية أراضيها ومناطقها ومياهها ومعالمها، وليس من حق أي دولة أخرى فرض مسمياتها القومية». واستطرد من ثم «وبخصوص التسمية الرسمية في الأمم المتحدة، كما تدعي إيران، فإنها حصلت بفهلوة من قبل إيران البهلوية الحليفة لبريطانيا والولايات المتحدة آنذاك، وفي غفلة من الزمن إبان تشكيل الأمم المتحدة في العام 1945. يومذاك لم تكن قد تشكلت بعض الدول الخليجية، وكان العراق منشغلا بمشاكله الداخلية ومشاكل الدول العربية الأخرى الرازحة تحت الاستعمار أو الخارجة منه تواً، فضلا عن الانهماك بتحالفات خارجية مهمة. هكذا استغلت طهران الوضع لتقديم خرائط قديمة تعترف بها وحدها، وحجب خرائط أخرى أكثر أهمية، تشير إلى التسمية العربية للخليج والتي تنسبه بعض تلك الخرائط للبصرة، وهذا أمر لا يمكن أن يستمر للأبد». واختتم ناصر مؤكداً أن «طول الساحل العربي على الخليج يبلغ 3.490 كيلومترا، مقارنة بالساحل الإيراني الذي لا يتجاوز طوله 2.440 كيلومترا، بالإضافة إلى أن الدول العربية المطلة على الخليج تبلغ 7 دول عربية وإيران الدولة الفارسية الوحيدة».


– «مسافة الألف ميل»… مرحلة انتهت

سياسياً، مع أن العراق قطع خلال السنوات الخمس الأخيرة شوطاً كبيراً في سياق تحسين علاقاته العربية، وبالأخص، مع دول الخليج، فإن الصورة لم تكن واضحة على أصعدة الإعلام والثقافة والسياحة والاقتصاد. وفي حين كان التطور السياسي في العلاقة يعكس جواً مريحاً على كل المستويات، فإن ما حصل إبان البطولة الكروية في البصرة فاق كل التوقعات. ثم إنه، بعدما كان البعض ينظر إلى العلاقة العراقية – الخليجية كما لو كانت «مسافة الألف ميل» التي تحتاج إلى أن تبدأ بخطوة واحدة وقد بدأت سياسياً على مدى السنوات الأخيرة بعد سنوات العزلة الطويلة، جاء احتفاء العراقيين بالخليجيين والصورة التي نقلها الإعلام الخليجي عن العراق بمثابة قطع كل «مسافة الألف ميل» بخطوة واحدة.

وزارة الخارجية العراقية، من جهتها، أعلنت أن بطولة «خليجي 25» ساهمت في تعزيز مكانة العراق السياسية عربياً وإقليمياً ودولياً. وقالت الوزارة، على إثر ندوة نظمها معهد الخدمة الخارجية في الوزارة بعنوان «السياسة الخارجية والدبلوماسية الرياضية رسالة سلام ومودة بين الشعوب»، وشارك فيها عدد من السياسيين ورؤساء البعثات الدبلوماسية العرب والأجانب والباحثين والخبراء، إنه «جرى خلال الندوة التأكيد على أن تنظيم بطولة خليجي 25 في البصرة يعد مدخلاً لتعزيز العلاقات الثنائية بين العراق ودول الخليج العربي، كما تشكل عاملاً إضافياً آخر يساهم في تعزيز مكانة العراق السياسية في الفضاءين العربي والإقليمي، وكذا الدولي، وتوفر له آفاقاً أوسع».

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أعلن وزير الثقافة العراقي الدكتور أحمد الفكاك البدراني أن «بطولة الخليجي 25 مثلت نقلة نوعية في المسارات السياسية والاقتصادية والثقافية والسياحية فضلا عن العلاقات المجتمعية. إذ أنها فتحت أبواب العراق ومطاراته لاستقبال الأشقاء الخليجيين والعرب، وفي الوقت ذاته، أوصلت رسالة إلى المجتمع الدولي مضمونها أن العراق بات منطقة آمنة وخالية من الإرهاب الذي قض مضاجع السياسيين». وأردف وزير الثقافة «هذه البطولة قدمت أروع صورة للعراقي وهو يجود بطبعه الأصيل»، وتابع «الحكومة العراقية تبنت هذه البطولة وسخرت لها كل الإمكانيات من أجل الاحتفاء بالأشقاء الخليجيين والعرب، وقد رفعت رسوم الدخول وأمنت كل السبل من أجل إنجاح هذه البطولة». وأيضاً، أكد البدراني أن «العرض التاريخي الذي جرى في افتتاح البطولة عكس أروع الصور عن مراحل حضارات العراق وصولاً إلى يومنا هذا، وكان لوزارة الثقافة والسياحة والآثار دور ريادي وبصمات واضحة، منها بصمات الفنانين الذين حضروا، والأزياء التي عرضت أثناء الافتتاح أو الختام. وحقاً لم ندخر جهداً إلا وأظهرته فرقنا الوطنية، بجانب الدعم اللوجيستي مثل الفنادق والمطاعم والمتاحف».

أما رئيس اتحاد الصحافيين العرب ونقيب الصحافيين العراقيين مؤيد اللامي فقال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «النجاح الكبير تحقق عبر هذه البطولة من خلال دعم الإعلام العربي والإعلام الخليجي عبر نقل الصورة الإيجابية الحقيقية عن العراق بشكل عام، وعن البصرة بشكل خاص، فضلا عن الظاهرة الاجتماعية الكبرى عبر الكرم والترحيب. وهو وإن جرى التعبير عنه بشكل عفوي… فإنه أعطى أيضاً صورة متكاملة عكست كل عناصر النجاح وإمكانية استثمار هذا النجاح». وأضاف اللامي – الذي هو أيضاً عضو اللجنة التحضيرية العليا للبطولة – «إننا سنعمل على أن تكون لدينا أنشطة وفعاليات مكثفة في بغداد لكي يأتي الزملاء من كل دول الخليج العربي، ومن ثم يرون بأنفسهم الصورة الأخرى غير النمطية عن العراق. وهذا من شأنه تكريس هذا النجاح والبناء عليه على كل المستويات». وبعدما بين اللامي أن «القنوات الخليجية نقلت صورة رائعة عن العراق إلى المواطن الخليجي، وهو أمر ستكون له انعكاساته الإيجابية مستقبلا»، أوضح قائلاً «هذا النجاح سوف لن يقتصر على العلاقة بين العراق ودول الخليج العربي، بل سيمتد إلى علاقة جادة بين العراق وكل الإعلاميين العرب في كل الدول العربية. وخصوصاً، أننا نرأس اتحاد الصحافيين العرب، وبالتالي، سنعمل على إعداد العديد من الفعاليات والمبادرات».

– رسالة واضحة جداً

وفي السياق نفسه، رأى حيدر الملا، السياسي العراقي والنائب السابق في البرلمان العراقي في لقاء مع «الشرق الأوسط» أن «بطولة كأس الخليج (البصرة 25) أوصلت رسالة جداً واضحة على صعيد متلازمة السياسة والرياضة معاً… وهي أن تسويق أي عملية سياسية يحتاج إلى إدارة وفهم جديد يستند على احتضان كل الكفاءات والإبداعات في كل الميادين والمجالات». وأوضح الملا أن «الدول عندما تحتضن الفنان والمثقف والرياضي والعالم فهي إنما تمارس عملية تسويق ناجحة».

ومن جهته، علق الدكتور سيف الدين الدراجي، الباحث في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» بالقول بأن «كلاً من الإعلام والسياسة يتحملان جزءا من المسؤولية… إن الإعلام يتحمل جزءاً مما تقدم ذكره كونه لم يكن يسعى بالشكل المعول عليه لإبراز الصورة الحقيقية لرغبة الشعب في الانفتاح والتعايش بشكل فعال مع محيطه العربي، ولا سيما دول الخليج. وما حصل في البصرة كان، وسيظل، نقطة مضيئة في تاريخ الدبلوماسية الشعبية التي أسست لسنين قادمة ركائز بنيوية لعلاقات صداقة وأخوة ستترجم لمشاريع وأفكار ومتبنيات ستعزز من دور العراق ومكانته الدولية». وبشأن شق السياسة قال الدكتور الدراجي «إنها تتحمل، كأداة حكم، جزءاً أكبر من مسؤولية الإخفاق في الانفتاح الإيجابي – رغم بعض المحاولات الخجولة – وتعزيز العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك نتيجة لانعدام الثقة المتبادلة وأدلجة المواقف لحسابات دول متعددة تتخذ من العراق ساحة لتصفية الحسابات. وهذا ما يتطلب وجود شخصيات شابة غير مؤدلجة ولا تتأثر بعقد الماضي، بل تسعى لبناء علاقات متوازنة على أساس حفظ المصالح الوطنية العليا».

أما أستاذ الإعلام الدولي في الجامعة العراقية الدكتور فاضل البدراني فاعتبر في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «المطابخ السياسية كانت أساس تحول الإعلام إلى منابر متضادة، وقد انساقت نحو عملية النبش في أعماق الزوايا المظلمة التي أفضت إلى إنتاج صراعات وتوترات طالت لعقدين من الزمن… وتمثل ضياع مكاسب الأخوة العربية بين العراق وبلدان الخليج العربي على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية». وتابع البدراني أن «الزمن أصبح عاملاً ضاغطاً بشكل إيجابي نحو تغيير البوصلة بالعلاقات من التباعد إلى التقارب منذ حوالي خمس سنوات». واختتم كلامه قائلاً «إن الدبلوماسية الرياضية كانت أفضل السبل في خلق مناخ سياسي إيجابي ساعد للاندماج والتفاعل بين هذه البلدان كونها ذات طابع جماهيري، ونأمل أن تتطور نحو تواصل يخدم الناس في إطار الأخوة العربية».

التعليقات معطلة.