العرب باعوا فلسطين قبل غيرهم

5

 

منذ عام 1948 وحتى اليوم، ظلت فلسطين العنوان الأبرز في الخطاب السياسي العربي، و”القضية المركزية” التي لا تغيب عن بيانات القمم ولا عن نشرات الأخبار الرسمية. غير أن التاريخ لا يُقرأ بالشعارات، بل بالوقائع، والوقائع تكشف أن العرب كانوا أوّل من تخلّى عن فلسطين، وأنهم باعوها بالصمت والتواطؤ قبل أن يبيعها الغرب وإسرائيل.

البداية: الوعود العربية المكسورة

في حرب 1948، دخلت الجيوش العربية تحت شعار “إنقاذ فلسطين”، لكنها دخلت منقسمة، بلا تنسيق، وبأوامر سياسية أكثر من كونها عسكرية. النتيجة كانت كارثية: هزيمة مدوية، وولادة نكبة شردت الشعب الفلسطيني وحولته إلى لاجئين. منذ تلك اللحظة، اتضح أن المواقف العربية مرتبطة بحسابات أنظمتها لا بصلابة المبدأ.

منظمة التحرير: تفويض مشروط

في السبعينيات، ومع تعاظم الضغط الدولي على العرب، جاءت القمم العربية المتتالية لتقرر أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. على السطح، بدا القرار انتصارًا للشرعية الفلسطينية، لكنه في العمق كان عملية “تفويض للتخلي”، إذ منح العرب المنظمة حق التفاوض، وأراحوا أنفسهم من عبء المواجهة مع إسرائيل. هذا التفويض مهّد الطريق لاحقًا لاتفاق أوسلو، حيث وجدت المنظمة نفسها وحدها في مواجهة آلة دولية وإسرائيلية ضخمة، دون غطاء عربي فعلي.

أوسلو: نهاية مرحلة وبداية الخديعة

عام 1993، دخلت منظمة التحرير في اتفاقيات أوسلو. لم تواجه أي اعتراض عربي حقيقي، بل كان هناك قبول ضمني، بل وتواطؤ من بعض الأنظمة التي رأت في الاتفاق فرصة للانفتاح على الغرب والولايات المتحدة. وهكذا، تحوّل الحلم الفلسطيني إلى سلطة منزوعة السيادة، بلا جيش ولا حدود ولا اقتصاد مستقل. إسرائيل حصلت على اعتراف مجاني، بينما حصل الفلسطينيون على إدارة ذاتية محدودة تحت الاحتلال.

مبادرة بيروت 2002: السلام مقابل اللاشيء

جاءت مبادرة السلام العربية التي أُطلقت من قمة بيروت عام 2002 لتؤكد مرة أخرى أن العرب لا يمانعون تقديم تنازلات مجانية. المبادرة عرضت اعترافًا كاملًا بإسرائيل وتطبيعًا شاملًا مقابل انسحاب إلى حدود 1967 وحل عادل للاجئين. إسرائيل لم تكترث بالمبادرة ولم تردّ عليها، لكن الخطورة أنها شكّلت غطاء سياسيًا للعرب ليبرروا خطوات التطبيع لاحقًا.

صعود حماس والانقسام الفلسطيني

مع فشل مسار أوسلو وتراجع شرعية منظمة التحرير، تقدمت حركة حماس إلى الواجهة بوصفها حاملة لواء المقاومة. لكن الانقسام الداخلي بين فتح وحماس أضعف القضية، وحوّلها إلى ساحة صراع داخلي لا يقل خطورة عن صراعها مع الاحتلال. والأسوأ أن بعض الأنظمة العربية استغلت هذا الانقسام لتبرير تقاعسها: “لا وحدة فلسطينية، ولا شريك واضح للسلام”.

ومع مرور الوقت، بدأت حماس تنزلق نحو حسابات السلطة وإدارة غزة، وتحوّل خطابها المقاوم إلى تفاوضي، ما أضعف زخمها وأثار تساؤلات جدية عن مستقبل خيار المقاومة.

التطبيع العلني: الخيانة بلا أقنعة

إذا كان العرب قد باعوا فلسطين بالتخلي والصمت في الماضي، فإن مرحلة التطبيع العلني كشفت سقوط الأقنعة تمامًا. من “كامب ديفيد” المصرية عام 1979، إلى “وادي عربة” الأردنية عام 1994، وصولًا إلى اتفاقيات “أبراهام” عام 2020 التي وقعتها دول خليجية، بدا واضحًا أن إسرائيل لم تعد عدوًا في نظر أنظمة عربية، بل شريكًا اقتصاديًا وأمنيًا.

الخطير أن هذا التطبيع لم يُشترط بأي تقدم في الملف الفلسطيني، بل تم على حسابه. وهكذا، تحولت فلسطين من “قضية مركزية” إلى مجرد هامش في بيانات شكلية.

الفلسطيني بين المطرقة والسندان

النتيجة الطبيعية لهذه التحولات أن الفلسطيني وجد نفسه في مأساة ثلاثية الأبعاد:

خذلان عربي رسمي تخلّى عن دعمه العملي واكتفى بخطاب بلاغي.

انقسام داخلي فلسطيني أنهك القضية وشتت الموقف الوطني.

عدو صهيوني يستثمر هذا الانقسام والتخلي ليكرّس احتلاله ويواصل مشروعه الاستيطاني بلا رادع.

الحقيقة التي يجب الاعتراف بها

الحقيقة المؤلمة أن العرب باعوا فلسطين قبل غيرهم. باعوها يوم صمتوا عن المجازر، ويوم فوّضوا المنظمة ثم تركوها وحدها، ويوم رحبوا بأوسلو، ويوم طرحوا مبادرة بيروت دون ضمانات، ويوم هرولوا نحو التطبيع بلا مقابل. أما الفلسطيني، فقد بقي وحيدًا يواجه مصيره، بين قيادات مثقلة بالسلطة، وعرب اختاروا مصالحهم على حسابه، وعدو لا يعترف بوجوده.

فلسطين اليوم ليست بحاجة إلى مزيد من بيانات القمم، بل إلى كشف هذه الحقائق للشعوب، حتى تدرك أن عدوها ليس فقط من يحتل أرضها، بل أيضًا من تخلّى عنها وهي تنزف.

التعليقات معطلة.