لقد كان الأمن القومي العربي مفهومًا استراتيجيًا يهدف إلى حماية استقلال الدول العربية وسيادتها، وضمان استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إلا أن هذا المفهوم، الذي كان يفترض أن يكون حجر الزاوية في بناء نهضة عربية مستقلة، أصبح رهينة الإرادات الدولية والإقليمية، حيث بات العرب مجرد أداة في لعبة المصالح الكبرى، وأضحى أمنهم القومي في مهب الريح.
تآكل القرار العربي المستقل
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع بروز النظام العالمي الجديد، خضعت الدول العربية لموجات متتالية من التدخلات الخارجية، سواء من القوى الاستعمارية التقليدية أو من القوى الكبرى التي أعادت تشكيل المنطقة بما يخدم مصالحها. لقد كانت نكبة فلسطين عام 1948 البداية الحقيقية لفقدان العرب القدرة على رسم مستقبلهم بأنفسهم، حيث فرضت الإرادات الدولية واقعًا جديدًا يتناقض مع طموحات الشعوب العربية.
توالت المحطات التي كشفت عن هشاشة القرار العربي المستقل، بدءًا من التدخلات الغربية في الصراعات الداخلية للدول العربية، مرورًا بحروب الخليج، وصولًا إلى موجة “الربيع العربي” التي استُغلت دوليًا وإقليميًا لإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة. وقد أثبتت هذه الأحداث أن معظم الدول العربية، رغم امتلاكها للموارد والثروات، لا تملك قرارها السيادي، بل تخضع لإملاءات القوى الكبرى والإقليمية.
الدول الإقليمية.. لاعبون فوق المسرح العربي
لم تقتصر التدخلات على الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا، بل برزت قوى إقليمية مثل إيران وتركيا وإسرائيل كلاعبين رئيسيين في زعزعة الأمن القومي العربي.
إيران، التي تبنت مشروعًا توسعيًا منذ عام 1979، استخدمت الطائفية كأداة لاختراق الدول العربية، وأنشأت ميليشيات موالية لها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ما أدى إلى تفكيك الجيوش الوطنية وزعزعة الاستقرار في هذه الدول.
تركيا، التي تحاول استعادة نفوذها العثماني، تدخلت في سوريا وليبيا والعراق، وسعت إلى ترسيخ نفوذها عبر دعم جماعات مسلحة تتبنى أيديولوجيات تتعارض مع مفهوم الدولة الوطنية.
إسرائيل، التي لطالما كانت عدوًا استراتيجيًا للعرب، استفادت من حالة التشرذم العربي لتعزيز حضورها العسكري والاقتصادي في المنطقة، وتمددت من خلال اتفاقيات التطبيع التي عكست واقعًا جديدًا في التوازنات الإقليمية.
غياب المشروع العربي الموحّد
في مقابل هذه التحديات، يعاني العالم العربي من غياب رؤية استراتيجية موحدة لحماية أمنه القومي. فبدلًا من أن تتبنى الدول العربية مشروعًا تكامليًا، استمرت الانقسامات الداخلية والصراعات البينية، مما سهّل على القوى الخارجية فرض أجنداتها.
الجامعة العربية، التي كان من المفترض أن تكون أداة لتحقيق الحد الأدنى من التنسيق العربي، فقدت دورها الفاعل، وباتت مجرد مؤسسة بيروقراطية غير قادرة على مواجهة التحديات الكبرى. كما أن التحالفات الإقليمية بين بعض الدول العربية لم تنجح في خلق تكتل قادر على مواجهة النفوذ الخارجي.
هل هناك فرصة لاستعادة الأمن القومي العربي؟
رغم قتامة المشهد، لا تزال هناك فرصة لإعادة بناء الأمن القومي العربي، لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية حقيقية تقوم على:
تحقيق المصالحة العربية: تجاوز الخلافات البينية والتركيز على القضايا المشتركة، خاصة الأمن والاستقرار.
بناء تحالف عربي قوي: من خلال إعادة إحياء مشاريع مثل “الناتو العربي” لمواجهة التهديدات الخارجية.
تحقيق استقلال القرار السياسي: التحرر من التبعية للقوى الكبرى والسعي لتأسيس علاقات متوازنة مع الجميع.
تعزيز القوة الاقتصادية والعسكرية: عبر استثمار الموارد العربية في بناء اقتصادات قوية وجيوش قادرة على حماية الأمن القومي .
ان الأمن القومي العربي لن يتحقق إلا إذا أدركت الشعوب والحكومات أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى مزيد من التبعية والانهيار. فإما أن يستعيد العرب زمام المبادرة ويضعوا مصالحهم فوق المصالح الخارجية، أو سيبقون مجرد أدوات في دولاب الإرادات الدولية والإقليمية .