د. معن علي المقابلة
صدر مؤخراً تقرير مؤشر الديموقراطية للعام 2017م عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية في بريطانيا(EIU) ، وهي وحدة مستقلة ضمن مجموعة الإيكونوميست توفر هذه الوحدة خدمات التنبؤ والاستشارات من خلال البحث والتحليل ، كالتقارير الشهرية ، والتوقعات الاقتصادية ، وتقارير الخدمة والمخاطر ، والتقارير الصناعية ، وتأتي أهيمه هذه الوحدة من خلال تقديم دراسات رصينة عن بيئات الاستثمار في البلدان المختلفة وضمن معايير واضحة وقابلة للقياس ، وقد شملت الدراسة مئة وسبع وستون دولة ، وبما ان الاستقرار السياسي احد اهم هذه البيئات لجذب الاستثمار تأتي اهمية هذا التقرير ، وقبل الدخول في تحليل هذه الدراسة ، لابد من توضيح ماهي المعايير التي اعتمد عليها التقرير كمؤشر للديمقراطية في هذه الدول؟ فقد جاء ضمن خمسة معايير وهي على النحو التالي:- العملية الانتخابية من حيث النزاهة والشفافية ، ودور الحكومة ، والمشاركة السياسية ، ثم الثقافة السياسية واخيراً الحريات المدنية والسياسية ، ومن خلال هذه المعايير تم تصنيف الدول الى اربعة فئات ، الاول ديموقراطية كاملة ، والثاني ديموقراطية بها نواقص ، والثالث نظام هجين ، والاخير نظام سلطوي ، وقد جاء التقييم من عشرة درجات.
ما يهنا في هذه الدراسة هو واقع الدول العربية ، وكالعادة تذيلت هذه الدول قائمة هذا التقرير ، ففي نظرة فاحصة في ترتيب الدول بشكل عام والدول العربية بشكل خاص نجد ان اربعة عشر دولةً اوروبيةً دخلت ضمن الفئة الأولى تصدرتها النرويج بـ 9.87 ، ثم جاءت دولتان من قارة أوقيانوسيا هما استراليا ونيوزيلاندا ودولة واحدة في كل من قارات امريكا الشمالية وافريقيا وامريكا الجنوبية وهي على التوالي كندا وموريشيوس واوروغواي ، ليصل عدد الدول في هذه الفئة لتسعة عشر دولة ، لم تدخل اية دولة عربية فيها.
بينما في الفئة الثانية( ديمقراطية بها نواقص) سبع وخمسون دولة جاءت على النحو التالي ثمانية عشر دولة اوروبية تصدرتها إيطاليا 7.98 ، واربعة عشر دولة اسيوية تصدرتها كوريا الجنوبية 8.00 واحدى عشر دولة من امريكا الجنوبية تصدرتها تشيلي 7.84 ، وثمان دول افريقية تصدرتها بوتسوانا 7.81 ، وست دول من امريكا الشمالية تصدرتها الولايات المتحدة الامريكية 7.98 ، والدولة العربية الوحيدة التي دخلت في هذه الفئة هي تونس 6.32.
فيما جاء في الفئة الثالثة (نظام هجين) تسعة وثلاثين دولة كان نصيب الاسد فيها لقارة افريقيا خمسة عشر دولة تصدرتها زامبيا 5.68 ، تلتها قارة اسيا احد عشر دولة تصدرتها مالاوي 5.49 ، ثم قارة اوروبا سبعة دول تصدرتها البانيا 5.98 ، واربع دول من امريكا الشمالية تصدرتها غواتيمالا 5.86 ، ودولة واحدة في كل من قارتي أُوقيانوسيا وامريكا الجنوبية وهما على التوالي فيجي 5.85 ، وبوليفيا 5.49 ، وفي هذه الفئة دخل اربع دول عربية هي المغرب 4.87 ، ولبنان 4.72 ، وفلسطين 4.46 ، واخيراً العراق 4.09.
اما الفئة الرابعة (نظام سلطوي) اثنتان وخمسون دولة جاءت اسيا في الترتيب الأول ست وعشرون دولة تصدرتها الاردن 3.87 ، واربعة عشر دولة من افريقيا تصدرتها ساحل العاج 3.93 ، ودولتان اوروبيتان هما روسيا 3.17 ، وروسيا البيضاء 3.13 ، ودولة واحدة في كل من امريكا الجنوبية والشمالية وهما فنزويلا 3.87 ، وكوبا 3.63 ، كان نصيب الدول العربية في هذه الفئة سبعة عشر دولة.
المتتبع للتقرير يلاحظ ان معظم الدول العربية جاءت ضمن الفئة الرابعة (نظام سلطوي) سبعة عشر دولة من اصل اثنان وعشرين مجموع الدول العربية ، اولها الاردن 3.87 وهي الاولى عربياً والثاني في هذه الفئة ، ومئة وسبعة عشر عالمياً ، واخرها سوريا 1.43 وهي الاخيرة عربياً ، ومئة وست وستون عالمياً وتأتي بعد كوريا الشمالية التي جاءت في المركز الأخير.
بينما جاءت اربع دول عربية في الفئة الثالثة (نظام هجين) وهي المغرب اذ جاءت الاول عربياً والخامس والعشرون في هذه الفئة ، ومئة وواحد عالمياً ، ولبنان الثاني عربياً والثامن والعشرون من نفس الفئة ، ومئة واربع عالمياً وفلسطين الثالث عربيا واثنان وثلاثين في هذه الفئة ، ومئة وسبعة عالمياً والعراق الرابع عربياً وست وثلاثين في هذه الفئة ، ومئة واحدى عشر عالميا.
اما الدولة العربية الوحيدة التي دخلت في الفئة الثانية(ديموقراطية بها نواقص) فهي تونس فقد جاء ترتيبها واحد واربعون في هذه الفئة وتسع وستون عالمياً ، بينما لم تدخل اي دولة عربية في الفئة الأولى(ديموقراطية كاملة).
القراءة الأولية لواقع الدول العربية في هذا التقرير نجد ان معظم هذه الانظمة سلطوية(دكتاتورية) ، على الرغم من وجود برلمانات منتخبة في بعض هذه الدول كالأردن والكويت والجزائر ومصر والسودان بل ان بعض هذه الدول تتم فيها انتخابات رئاسية كمصر والسودان والجزائر وموريتانيا ، وهذا مؤشر لهذه الانظمة ان انتخاباتهم هذه لا تخضع للمعايير الدولية ، وما هي الا تجميل لواقع مشوه قد يُسوقوه داخلياً ، ولدى الدول الحليفة التي لا يعنيها الديموقراطية في هذه الدول بقدر ما تعنيها مصالحها ، ما دامت هذه الأنظمة قادرة على الاستمرار والمحافظة على هذه المصالح.
كما يبين التقرير ان الدول العربية تتراجع في مؤشر الديمقراطية بعكس دول افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية او ما كان يطلق عليها دول العالم الثالث التي تنتمي اليها الدول العربية ، فالنسبة العظمى من هذه الدول بدأت تأخذ مكانها في الفئة الثانية ، والاستثناء الوحيد عربياً تونس التي استطاعت ان تنتقل لهذه الفئة بفضل الربيع العربي الذي انطلق اساساً منها.
وكما اسلفنا تأتي اهمية هذا التقرير من دراسة بيئات هذه الدول السياسية ، فكلما كانت هذه الدول اكثر ديموقراطية كانت اكثر استقراراً ، وعليه تكون بيئاتها اكثر جذباً للاستثمار فالعلاقة بين الاستقرار السياسي وجذب الاستثمار علاقة طردية ، وعليه ستبقى الدول العربية اذا ما استمرت بسياستها الحالية تعاني اقتصادياً وتعتمد في اقتصادها على المساعدات والهبات والقروض من المؤسسات الدولية ، وستبقى سياساتها رهينة لهذه المؤسسات والدول الكبرى ، فمعظم هذه الدول تعاني من اختلالات هيكلية في اقتصادها ونسب غير مسبوقة في الدين الخارجي والداخلي ، وارتفاع بنسب البطالة ، وتراجع حاد في الخدمات التي تقدمها لمواطنيها سواء في البنى التحتية والتعليم والصحة ، وهذا ما يجعل هذه الدول على صفيح ساخن او على فوهة بركان لا تعلم متى يثور.
واخيراً وليس آخراً ، فان مثل هذه الدراسات كالتي بين ايدينا تقدم للأنظمة والحكومات هدية بالمجان لتقف على واقعها وتحاول ان تطور منه ، من خلال تطوير نظمها السياسية ، والانفتاح على شعوبها واشراكهم في ادارة الدولة وتقديم مزيداً من الحريات السياسية ، بغير ذلك ستزداد الهوة بين دول العالم الديموقراطي وهذه الانظمة وستغرق في بحور الجهل والتخلف والفقر والمجاعات والحروب الأهلية.