العرب ومعركة التوازن

2

رامي الريس

أغلب الظن أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لن يغادر البيت الأبيض إلا بعد أن يكون قد أعاد رسم خريطة الشرق الأوسط، بالتعاون الوثيق مع حليفته إسرائيل التي يمثلها اليوم رئيس الوزراء الذي أمضى أطول فترة في منصبه؛ بنيامين نتنياهو. يريد ترمب أن يُسجّل له التاريخ أنه غيّر مسار الأحداث في المنطقة والعالم، بمعزل طبعاً عن النتائج والتداعيات.

ترمب رجل صفقات، ينهل من خلفيته العقارية والتجاريّة ويصبّ في المجال السياسي. يبحث عن عقود اقتصاديّة لفتح المزيد من الآفاق أمام الاقتصاد الأميركي في مجال الأسلحة والاستثمارات الأخرى، ولا يكترث بتاتاً للمبادئ الأخلاقيّة، أو حتى للسياسات التقليديّة التي تعتمدها المؤسسة السياسيّة الأميركيّة المشكّلة من مؤسسات دستوريّة (حكومة وكونغرس وسلطة قضائيّة)، ومن مجموعات ضغط وإعلام مملوك من كبار الأثرياء (وبين هؤلاء وترمب «عداوة كار»).

سرعان ما تبيّن له بُعيد عودته «المظفّرة» إلى البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) الماضي، أن الوعود الكثيرة التي أطلقها في مرحلة الحملات الانتخابيّة بالنسبة إلى وقف الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة والحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، ليست بالسهولة التي يمكن التعامل معها بخفة كما يحصل في المهرجانات الانتخابيّة حيث تلتهب الحماسة عند الجمهور، ويعلو التصفيق عند أي كلمة أو عبارة سياسيّة، بمعزل عن القدرة على الالتزام بها.

رغم كل قوة ترمب لم تتوقف الحرب الإسرائيلية على غزة التي حصدت أكثر من 50 ألف ضحية، بينهم نحو 18 ألفاً من الأطفال. وذهبت مخيلته نحو المشاريع العقاريّة في غزة بدل البحث الجدي عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الذي يناضل في سبيلها منذ أكثر من سبعة عقود! ومنذ أيام معدودة، أعلن ترمب عن «خيبة أمله» من نظيره الروسي فلاديمير بوتين لعدم تعاونه في إنهاء الحرب على أوكرانيا، وتبيّن له أنه ليس مطواعاً كما كان يظن، رغم أنه «سلّفه» موقفاً متقدماً من خلال استقباله السيئ للرئيس الأوكراني في البيت الأبيض بما تجاوز الأصول والأعراف الدبلوماسيّة المعتمدة في الاجتماعات بين رؤساء الدول.

المهم أن «قطار» إعادة رسم الشرق الأوسط انطلق بقوة، وأخذ دفعاً كبيراً من خلال الانغماس الأميركي المباشر في توجيه الضربات العسكريّة للمواقع النوويّة الإيرانيّة، وعدم الاكتفاء بدعم حليفة واشنطن؛ أي إسرائيل، أثناء قيامها بذلك. ومع الانكفاء الإيراني، وإضعاف أذرعها في المنطقة، وسقوط نظام بشار الأسد في دمشق، ترتسم معالم جديدة في المنطقة تمتلك فيها إسرائيل اليد الطولى؛ فهي قادرة على مواصلة حربها في غزة مضيفة إليها سلاح التجويع، وتقصف في لبنان من دون حسيب أو رقيب، وتغير على سوريا وتحتل أجزاء إضافيّة من أراضيها، ولا من يسأل أو يردع.

من هنا، تبرز الحاجة إلى بلورة محور عربي يملك القدرة على تحقيق الحد الأدنى من التوازن السياسي، وإن لم يكن العسكري. محور يملك رؤية جديدة للمنطقة وآفاقها المستقبليّة، تقوم على مرتكزات جديدة مغايرة للمرتكزات القديمة التي سقطت بالضربات القاضية، والتي مضى عليها الزمن.

المطلوب بلورة رؤية عربية واضحة تؤكد أن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وأن القفز فوقها يفاقم مشاكل المنطقة ولا يحلها، وأن العرب لديهم القدرة على المنافسة في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتكنولوجيا، خصوصاً أن ما حققته دول الخليج العربي من نهضة اقتصادية غير مسبوقة في السنوات الأخيرة كفيل بتغيير وجه المنطقة أيضاً.

إذا كانت المواجهة العسكريّة العربيّة – الإسرائيليّة صارت شيئاً من الماضي بفعل تبدّل موازين القوى وتغيّر الأولويات السياسيّة؛ فإن البحث عن سبل جديدة للمواجهة يبدو مُلحاً وضرورياً؛ لأن البديل عنها سيكون الانصياع التام للرغبات الإسرائيليّة في تطويع كل دول المنطقة بما يخدم مشروعها الذي لا يتوقف عند أي حدود سياسيّة أو أخلاقيّة أو جغرافيّة.

بإمكان الدول العربية أن تقود معركة التوازن؛ لأنها في مكانٍ ما بمثابة معركة وجود، وأي تصنيف سياسي أقل من ذلك يبقى قاصراً عن التعامل مع التحديات الكبيرة التي سوف تعيشها المنطقة في العصر الراهن.

التعليقات معطلة.