العطاء الذي يملكنا

2

محمود عبدالراضى

العطاء دون مقابل ليس مجرد فعل، بل هو لغة الروح التي تتحدث بصمت، ورائحة القلب التي تبقى بعد رحيل الأجساد، حين نمد يدنا دون انتظار عائد، حين نسقي الحياة بصدق دون طلب شكر، نزرع في الأرض ما لا يمكن أن تلمسه العين، ونزرع في أنفسنا طمأنينة لا تعرفها الأموال ولا العوائد المادية.

العطاء الحقيقي يختلف عن العطاء المشروط، فهو لا يصرخ باسم المتلقي، ولا يطالب بالتقدير، بل يكتفي بأن يرى العالم أفضل قليلاً مما كان قبل أن يمر.

في كل بسمة نصنعها، وفي كل كلمة نواسي بها، وفي كل لمسة نخفف فيها الألم، يكون القلب قد أعطى نفسه قبل أن يعطي ما بين يديه، إنها مفارقة جميلة: كلما أعطينا أكثر، شعرنا بأننا نملك أكثر، وأن حياتنا أغنى رغم أن أيدينا فارغة.

ومن يجرّب العطاء دون مقابل، يدرك أن السعادة ليست رصيداً نحصيه، بل شعور نكتسبه من رؤية أثرنا على الآخرين، من معرفة أن هناك شيئاً فينا بقي بعد أن ذهبنا.
العطاء هو ذلك الحصاد الذي لا ينتهي، الذي يزهر في القلوب قبل أن يزهر في العيون، ويصنع عالمنا الداخلي أكثر إشراقاً من أي مكافأة خارجية.

لكن العطاء ليس سهلاً دائماً، يتطلب شجاعة أن نعطي من دون أن نرى وجه الشكر، وإيماناً بأن كل فعل حسن، مهما صغر، يترك أثره في دائرة الحياة، هو تمرين على الصبر، وتجربة على الرحمة، وفن على معرفة أن القيمة الحقيقية لا تقاس بما نمتلك، بل بما نقدم بدون قياس.

يبقى العطاء دون مقابل أعظم هدية يمكن أن نهديها لأنفسنا وللعالم، إنه طاقة خفية ترفعنا فوق الأنانية، وتحررنا من قيود الجشع، وتعلّمنا أن الحب الحقيقي لا ينتظر جواباً، وأن الخير الصادق لا يحتاج شهوداً.

فلتكن أيدينا ممتدة دائماً، وقلوبنا واسعة، وحياتنا مرصعة بالعطاء الذي لا يُقدر بثمن.

التعليقات معطلة.