عمرو عبد العاطي
قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر لبدء الولايات المتحدة وروسيا التطبيق الفعلي لمعاهدة “ستارت 3” الموقعة في 2010، التي تنص على اتخاذ الإجراءات لتخفيض حجم الترسانتين النوويتين للدولتين، لمدة سبع سنوات، نشرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في الثاني من فبراير الجاري وثيقة “مراجعة الموقف النووي (NPR)Nuclear Posture Review ” للولايات المتحدة، التي كشفت عن نية إدارة الرئيس “دونالد ترامب” لتطوير الترسانة النووية الأمريكية لتكون أكثر ردعاً للأعداء والخصوم.
تأتي المراجعة الأولي للوضع النووي الأمريكي منذ عام 2010 متسقة مع ما تعهد به “ترامب” خلال حملته الانتخابية لعام 2016 بتوسيع وتعزيز القدرات النووية للولايات المتحدة، وأيضا مع ما جاء بخطابه “حالة الاتحاد” أمام جلسة مشتركة لمجلسي الكونجرس (مجلس الشيوخ والنواب) في ٣٠ يناير من العام الجاري، حيث أكد ضرورة تطوير الترسانة النووية للبلاد لمواجهة السرعة التي يطور بها الخصوم والمنافسون أسلحتهم النووية، ولردع أي عمل عدواني ضد المصالح والأمن القومي الأمريكي.
يكشف سعي إدارة الرئيس “ترامب” إلى تطوير وتعزيز قدرات بلاده النووية في الوقت الذي تسعي فيه إلى الالتزام بخفض حجم ترسانتها النووية وفقاً لبنود معاهدة “ستارت” عن ضبابية في سياسة الإدارة النووية، ومزيد من التوتر في العلاقات الأمريكية-الروسية.
الردع النووي
في استعادة لإرث الحرب الباردة الذي كان يقوم على سياسات”الردع النووي” بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، تنطلق مراجعة إدارة “ترامب” للسياسة النووية الأمريكية من ضرورة ردع روسيا، وخصوم ومنافسي واشنطن عن استخدام الأسلحة النووية ضدها وحلفائها من خلال تعزيز قدراتها النووية ذات القوة التدميرية المنخفضة، لا سيما أن الرئيس الأمريكي على قناعة بأن الوضع النووي لدولته مزر مقارنة بالترسانة النووية لروسيا والصين.
يأتي تركيز وثيقة البنتاجون للسياسة النووية الأمريكية على مواجهة القدرات النووية الروسية، استنادا إلى رؤية مسئولي وزارة الدفاع وكثير من أعضاء الإدارة الأمريكية بأن موسكو قوة تعديلية في النظام الدولي، وذلك ما نصت عليه استراتيجية الأمن القومي لعام 2017، بالإضافة إلى تحول أولويات الوزارة من محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، بعد خسارته مناطق نفوذه في سوريا والعراق، إلى مواجهة النفوذ الروسي المتنامي عالمياً، والذي يُهدد الدور القيادي للولايات المتحدة لنظام الدولي الذي دشنته ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولهذا، كتب وزير الدفاع الأمريكي “جيمس ماتيس” في تقديمه لوثيقة “مراجعة الوضع النووي” أنها تأتي تماشياً مع النظرة الأمريكية للعالم كما هو، وليس كما تتمني، وأنها تمثل رداً على التوسع الروسي في امتلاك الأسلحة النووية. وهو ما يتفق مع دعا إليه بعد أسبوع من توليه منصبه رسمياً من أهمية مراجعة القدرات النووية الأمريكية، بحيث يكون الردع النووي للولايات المتحدة حديثاً وقوياً وقادراً على ردع التهديدات التي يشهدها القرن الحادي والعشرون، ولطمأنة الحلفاء.
وتنظر الوثيقة إلى الصين وكوريا الشمالية كتهديد نووي للولايات المتحدة، حيث إنهما تطوران أسلحة نووية تتفوق على تلك التي تمتلكها واشنطن، وكذلك إيران لأنها تسعى إلى تعزيز قدراتها لامتلاك الإمكانات الضرورية لتطوير سلاح نووي، على الرغم من توقعيها اتفاقا نوويا في منتصف عام ٢٠١٥ مما من شأنه أن يحد من قدراتها على امتلاك تكنولوجيا إنتاج سلاح نووي.
مواجهة الخصوم
تبنت إدارة الرئيس الأمريكي السابق “باراك أوباما” سياسة تقوم على تقليص حجم الترسانة النووية الأمريكية، استنادا إلى ما سماه “الواجب الأخلاقي” للولايات المتحدة بقيادة المجتمع الدولي كمثال في مجال التخلص من الأسلحة النووية. لكن عديدا من مسئولي إدارة “ترامب” ومسئولين بوزارة الدفاع رأوا أن سياسة الإدارة السابقة مثالية، حيث إن خصوم واشنطن (روسيا والصين وكوريا الشمالية) يطورون أسلحتهم النووية، ولم يحذوا حذو الولايات المتحدة في تقليل أسلحتهم النووية.
وتستند وثيقة “مراجعة الوضع النووي” إلى ثمة تحولات دولية تدفع الولايات المتحدة إلى تعديل عقيدتها النووية، حيث بدأت روسيا تظهر كعدو جيوسياسي لواشنطن، كما اقتربت كوريا الشمالية من امتلاك صاروخ باليستي قادر على حمل رءوس نووية يصل إلى الأراضي الأمريكية، مما يعيد إلى الذاكرة احتمالات خوض الولايات المتحدة حرباً نووية كما كان إبان فترة الحرب الباردة.
يهدف البنتاجون من زيادة قدرات الولايات المتحدة من الأسلحة النووية محدودة التأثير (أقل من 20 ألف طن) إلى منح الإدارة الأمريكية قدرة أكبر على الردع، والاستجابة لتهديدات نووية محتملة ضدها أو ضد أحد حفائها. فوزارة الدفاع لا تريد أن يكون رد فعلها في حال تنفيذ روسيا أو قوى معادية هجوماً نووياً محدوداً ضد أحد حلفائها محصوراً بين الأسلحة التقليدية أو الأسلحة النووية فائقة التدمير، بل ترغب في الرد عبر أسلحة نووية قوتها التدميرية منخفضة، حيث يرى مسئولو الوزارة أن امتلاكها سيمثل رادعاً قوياً لموسكو لاتخاذ أي خطوة تضر بالأمن والمصلحة القومية الأمريكية أو أحد حلفائها حول العالم لاسيما في أوروبا.
وبينما يُشير البيت الأبيض إلى أن إنتاج مزيد من الأسلحة النووية محدودة التأثير سيمنح الإدارة الأمريكية قدرة أكبر على الردع وعلى الاستجابة لتهديدات نووية محتملة، أو غير نووية، يرى خبراء في قضايا الأمن القومي أنه في حالات كثيرة، يكون التهديد بالأسلحة التقليدية أو فرض عقوبات أو إجراءات مكلفة في المجال السيبراني أكثر درعا من الأسلحة النووية في حال التهديدات منخفضة المستوى التي تبرع فيها كوريا الشمالية وروسيا.
فيذهب عديد من الخبراء العسكريين إلى أنه إذا كان من الممكن تحقيق الهدف والمصلحة الأمريكية من خلال الأسلحة التقليدية، فإن التهديد بها يكون أكثر مصداقية من التهديد النووي. لكن وثيقة وزارة الدفاع ترى أن القوة غير النووية لا تقدم ردعا مماثلا للذي تقدمه القوة النووية.
مخاوف عدة
رغم تأكيد عديد من مسئولي إدارة “ترامب” ووزارة الدفاع أهمية تعديل العقيدة النووية الأمريكية في عالم مضطرب، فإن خبراء أمريكيين في الشئون النووية يرون أن الاعتماد على الأسلحة النووية منخفضة التكلفة لن يمكن الولايات المتحدة من ردع عدوان روسي منخفض المستوى في أوروبا الشرقية، أو كوري شمالي في شمال شرق آسيا. ويرون أن الهدف من الوثيقة هو زيادة عدد الأسلحة النووية أكثر من تحقيق فائدة منها. ولذا، أكدوا أن وثيقة “مراجعة الوضع النووي” أقل من أن تصدر عن وزارة الدفاع، فهي أقرب إلى خطاب من جماعة ضغط (لوبي) تدعم نشر الأسلحة النووية عالميا.
وبدلا من عمل الوثيقة على تقليل مخاطر انتشار أسلحة الدمار والسباق النووي في عالم مضطرب، فإنها تدفع الولايات المتحدة إلى الانخراط في سباق نووي مع خصومها وتشجعهم، بل تدفعهم، إلى زيادة وتيرة هذا السباق الذي يهدد في التحليل الأخير الأمن والسلم الدوليين، واحتمالات الحرب النووية بين القوى العظمى، كما كان الحال خلال فترة الحرب البادرة.
وتمنح الوثيقة الرئيس “ترامب” السلطة القانونية لإصدار أوامر بضربات نووية في حالات الطوارئ. ولدى الولايات المتحدة أكثر من ألف سلاح نووي منخفض التكلفة يمكن أن يأمر الرئيس باستخدامها ضد كوريا الشمالية أو إيران، أو ضد أي دولة يراها تمثل تهديدا لمصالح الولايات المتحدة.
ويثير هذا مخاوف كثير من الأمريكيين من سوء تقدير الرئيس لاستخدام الأسلحة النووية، حيث ترى الأغلبية- وفقا لاستطلاع رأي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” في الثالث والعشرين من يناير الماضي- أن 60% من الأمريكيين لا يثقون في الرئيس “ترامب” لاتخاذ قرارات حكيمة بشأن الأسلحة النووية، فضلا عن أن نصفهم يتخوفون من أن يشن هجوماً نووياً من دون مبرر.
وتتعاظم تلك المخاوف مع تهديد “ترامب” في أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي كوريا الشمالية بـ “تدميرها بالكامل” إذا اضطرت الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها أو عن حلفائها ضد هجوم من بيونج يانج.
خلاصة القول: على عكس رؤساء الولايات المتحدة السابقين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، منذ الرئيس ريتشارد نيكسون، بخفض حجم الترسانة النووية الأمريكية، حيث سعوا إلى تقليل دور وعدد الأسلحة النووية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، تتبنى وثيقة “مراجعة الوضع النووي” رؤية الرئيس “دونالد ترامب” بضرورة زيادة القدرات النووية للبلاد، لأن الترسانة النووية الأمريكية سمح لها بالضمور، وأنها لا تعمل، وهو ما يدفع خصوم ومنافسي واشنطن إلى سباق تسلح نووي محتدم في عالم محفوف بالمخاطر والتحديات للأمن والسلم الدوليين.