جاسم عاصي
كَثُر الحديث عن العلاقة بين الثقافي والسياسي، عبر الحوارات التي تجريها بعض الفضائيات التي يهمّها ترصين المسيرة الوطنية على أسس تمتلك الاعتبارات المبدئية. وكان مبدئياً أن يكون هذا الإجراء منطلقاً من مكمن مبدئي مجرد من الايديولوجيات واستحكامات السلطة. فقط الاحتكام إلى وطنية الإنسان العراقي على شتى مستويات وجوده المادي والوظيفي. ولم تكن تلك الآراء لتتضارب، بقدر ما تختلف في بعض المفاهيم ذات الصلة بخلفية المُحاوِر . لكن في المحصلة النهائية تصبّ الآراء في معالجة مثل هذه الإشكالية التي ــ كما يبدو ــ أصبحت لازمة بسبب الإشكالية الكبرى في ما يخص العلاقة بين المثقف والسياسي.
وفي هذا لا يمكننا بطبيعة الحال، سوى أن نحتكم إلى طرح مفهوم (المثقف، السياسي، الثقافة، السياسة، السلطة). هذه المفردات دخلت في إشكالية بنيوية من منطلق الفهم الذاتي. فكان للسياسي أن لا يترجل عن صهوة فرسه. والثقافي يعتد بعقله الذي صاغ له الرؤى بعيدة المدى. لذا نجد أن الذي اضاف لكل هذا هو إشكالية استيعاب التغيير الذي حصل ما بعد 2003 . هل هو تحرير أم احتلال ؟ الإشكالية هنا تتشعب مردوداتها التبريرية. فالسياسي يحتكم إلى السلطة ومركز القرار والنمو على حساب الخاص والعام ويتشبث بالانتخابات والبرلمان وإن كانا لا يستوفيان شروط الديمقراطية، لأنهما خضعا للسبب والنتيجة. والثقافي خضع للتراكم المعرفي الواسع، وللخبرة الميدانية وكشوفات الرؤى المستدامة من مصادرها الفكرية. إذاً نحن سنبقى متواصلين ضمن هذه الإشكالية (العزلة الذاتية) التي لا تتحدد مساراتها ولا تُكسر أطرها وحدودها، لأنها أيضاً تخضع في الزمان إلى السبب والنتيجة. فالسياسي لا يغادر موقعه عن طيب خاطر، كموقف مبدئي، بل يتقاتل كي يعود ليراكم الخطأ. العلّة ليست في الإجراء الوطني (حرية، انتخابات، ممارسات ديمقراطية، أشكال طموحة لتأسيس دولة) كل هذا مستباح، ويشكّل واجهة لكل مناسبة سياسية وفعالية جماهيرية. غير أن المتحقق على صعيد الواقع غير هذا، إذا ما احتكمنا إلى النتائج المترتبة لصياغة مستقبل البلد.
نحن مستمرون في معالجة أخطاء الغير منذ دخول (داعش) أرض الوطن، وعلى عجالة قياسية. وفي الوقت نفسه نثير حالات جديدة لا تصب في مسألة التحرير على الاطلاق . وهي حالات كثيرة، لعل مسألة الاستفتاء واحدة منها، لأنها سحبتنا إلى مسألة خطيرة وتشعبات ما كان يجب تداولها في هذه المرحلة. كما وأننا نرتجل بعض الفعاليات كخلق القوانين وتعديل بعضها كقانون الأحوال الشخصية . كما لو أننا استنفذنا إقرار كل القوانين ذات الصلة بحياة الشعب ومستقبل الوطن. اعتقد أنها أتاحت الفرصة لفلول (داعش) لإعادة النظر في الأساليب الجديدة، بعد ضياع الأرض منها، وتبدد حلم تأسيس الدولة الإسلامية المزعومة. فداعش تنظيم يحتكم إلى العقل وإن كان خرافياً ومخرباً، فهو يستعين بالتاريخ العربي الإسلامي لتبرير أفعاله وإجراءاته الميدانية، يتوسل بالظواهر التي رافقت الفتوحات الإسلامية كالسبايا والغنائم مثلاً، وكيفية التعامل معها بتفاوت ميداني خاضع لتشكّل هذا القائد أو ذاك المُحارب. حيث أصبحت الصبيات من ممتلكات الغازي أو الفاتح، والممتلكات المادية غنائم يمكن توزيعها وضمّها إلى الملكية الخاصة وليست العامة. ولنرى كيف فكّر أولئك؟ وكيف أعاد هؤلاء صياغة سياقاتهم الجديدة، لا سيّما انتهاك جسد الأنثى، بتبرير كونها (ذمية) وهو مصطلح يمتاز بالخسّة ليس غير . إذ تسوغ المبادئ تلك إباحته، ليس بالزواج بـ(القاصر) بل بالانتهاك الجسدي الحيواني كما حصل لـ (نادية) الإيزيدية. وهي مثلٌ من بين الانتهاكات التي لا تُحصى في سوق (النخاسة والجواري)؟!. والذي يُثير أكثر، تكرار هذا الفعل بتخريج قانوني أو شرعي خلال جواز تزويج الفتاة القاصر بعمر تسع سنوات؟! دون الرجوع إلى المبادئ الإسلامية الحقّة في وجوب حصول المرأة على حقوقها في التعليم والعيش الكريم والاختيار الحر المبني على رؤى متمكنة وواقعية وإنسانية ومسؤولية تأسيس العائلة ورعاية أفرادها، لا وضعها ضمن دائرة أب ينتفي من عقله الوعي، ومتشبث بالمشرّع باعتباره وكيل الله في الأرض. إن السير في العماء، هو جزء من اشكالية العلاقة بين الثقافي والسياسي، طالما انتفى عنصر الحوار (وحاورهم بالتي هي أحسن).
إن وجود عناصر الادعاء بالمبادئ وتخطيء الآخر، واحدة من العقبات التي نمت ما بعد الاحتلال تماماً، فهي ظاهرة انوجدت وترعرعت وسط زمن ملتبس اختلطت فيه القيّم، واضمحل سند المبدأ والفكر النيّر، وترك ما ينمّي غياب الوعي الفردي والجمعي في ذمة الملالي والغيبيين، وطلاب المال والجاه والكارزما التي صنعناها كأصنام الجاهلية، وتعلقنا بها وفق عاطفة أججها العقل، حيث أصبحنا كما المصباح الذي يعمل بالبطارية، لا يُضيء إلاّ إذا تمّ شحنه. بمعنى لم تكن لدينا إرادة ذاتية لكي نُضيء، بل نتشبث في كوننا يمكن أن نكون مصدر إضاءة دون الحاجة إلى من يحاول خلق اللبس في العقل ومحو الإرادات الخالقة والمساهمة في بناء الحياة . نحن بحاجة إلى إنسان قوي يعترض بعد أن يحتكم إلى عقله، واعتراضه مبني على أسس عقلانية وليست غيبية. فالأسود مكتف بطبيعته اللونية، كذلك الأبيّض. يتوجب عدم خلط الألوان في لون ثالث مبتكر ومتماهي، يُثير البلبلة العقلية، ويقود إلى المتاهة العقلية. واجبنا أن نصوغ إنساناً ذا عقل نيّر وتفكير سليم، له دراية كافية بما يتخذه من إجراء. في مثل هذا يمكننا أن نجد إنساناً لا تنطلي عليه الأمور وتلتبس، فهو يفكر بعقله لا بعاطفته. حيث لا يُساق إلى المذبح بإرادة خفية، رائدها المصالح الفردية والحزبية والكتلوية. إننا نعيش محنة وجود حقيقي، فالأطراف التي تخلق الأزمات كُثر، والأساليب التي تنتهجها متعددة ومشتبكة عند العامة. الأمر الذي يخلق متوالية إجرائية تتوافق مع كل مرحلة. وهذا ما نلاحظه في واقع الحال، عبر الخلط المتوفر والذي بطبيعة الحال، له علاقة بالانتخابات الموعودة . ذلك بالاعتماد على خلق الأزمات حيث ينشغل الإنسان بما يدور. والحقيقة إن هذا الإنسان بعيد عن هذا، لأنه إمّا اتخذ موقفاً جراء الفشل المتواتر، أو أنه أصيب بالملل واكتفى بحماية ذاته من عاديات الزمن . فغداً يرمي همومه على غيره، مختاراً زاويته التي يأوي إليها مرغماً للتخلص من ضوضاء الواق ولبسه، بحكم الأسباب والنتائج التي خلقت لديه تراكماً سلبياً حقق له موقفاً سلبياً. أو أنه منتفع من المساهمة في مثل هذه الإشكالية دون اعتراض. منتفعاً بصورة مؤقتة مما تمنحه هذه الجهة أو تلك من مكاسب .
ما نريد أن نؤكده خلال هذا الطرح؛ أننا ضمن إشكالية صعبة، تتطلب الكثير من الزمن والجُهد والموازنة وحضور العقل، وعدم الانسياق وراء مكبرات الصوت، والجدل غير النافع. والانفعالات التي همّها إخافة الغير لا حواره بالمنطق . فالحجة ضعيفة والمداول خلق لها المبررات، لأنها استندت إلى الدين، وهو خط أحمر استفاد منه المدعي. إذ يصعب على الإنسان البسيط اخراق المحرم عليه، لأنه من اجتهاد النخبة، ومن إجراءات العقل. بينما الحقيقة أن ليس ثمة علاقة بين الدين وما يجري من مصادرة لحقوق الغير، والعمل على تفتيت وحدة البناء لشعيب آمن ووطن يتوفر في حاضرته الموضع الذي يؤمّن السلامة وتقديم أبسط أسس الحياة. فالمتسوّلون كُثر، بل لا يعدون، والذي يراقب باب منزله سوف يُحصي عدد الطرقات على صفيحه طلباً للحاجة، ويتأسف لما يشاهده من هدر للمال والعطاء (الحاتمي) في المناسبات الدينية دون مبرر أو حجة. في الوقت نفسه يمكننا العمل وبرأس عامر، بالمشاريع أن نؤسس بهذا المال مشروعاً يدر الأرباح ويُنسق المسعى لتلافي استفحال مثل هذه الظواهر في مجتمعنا، لأنها تشكل عاراً في تاريخ الشعوب. الجوع والتشرد وامتهان حِرف تمس بكرامة الإنسان ظاهرة مقززة، وتشكّل ملمحاً يخص الأخلاق التاريخية إنْ صح التعبير، شأنها شأن بعض الأحداث في التاريخ القديم.