مهنا النويصر
صنف المفكر العربي عبد الوهاب المسيري العلمانية إلى صنفين: علمانية شاملة، وعلمانية جزئية. وتقبل معظم الباحثين في الفكر والسياسة هذا التقسيم باعتباره يصف حالات قائمة في الواقع العربي. فالعلمانية الشاملة تمثلت في أنظمة مثل نظام بورقيبة وبن علي والقذافي، والجزئية ربما يصلح لها مثال نظام علي صالح في اليمن.
لكنا اليوم نجد نمطا آخر لا ينطبق عليها هذا التقسيم، و هو نمط الحكم في السعودية، الذي له ممارساته ذات الخصوصية الغريبة في المحيط الإسلامي وهي ممارسات انطبع بها النظام السعودي وخاصة في الفترة الأخيرة من وقت تولي عبد الله بن عبد العزيز الحكم حتى عهد الملك سلمان وابنه.
لقد تم التموضع الخاص فيما لا يمكن وصفه بالعلمانية الشاملة ولا الجزئية، ولا الإسلامية الشاملة ولا الجزئية، بل هو شيء مزيج من كل ذلك يمكن تسميته (العلمانية السعودية) التي ترعى الحرمين الشريفين وقنوات mbc في ذات الوقت، وتقيم هيئة لكبار العلماء وفي المقابل تجعل من كبار العلمانيين مستشارين ومسؤولين، وتقيم بعض الحدود الشرعية وتلغي عمليا بعضها الآخر كحد السرقة وشرب الخمر، وتقاضي ما تصفه بالإرهاب على يد قضاة مخصصين لذلك ثم تقوم باعتقالهم بعد أن أصدروا الأحكام المطلوبة منهم!
ولا تقتصر العلمانية السعودية على ذلك، بل تمتد حتى للقرآن والسنة، فتعمد إلى إنشاء مجمعين لهما بالتوازي مع رعايتها لمركز مسبار المتطرف علمانيا ولمجلات إلكترونية تنشر الإلحاد، وتجلب كبار العلماء للجلوس في صدر المجلس المغطى بالإعلام في ذات اللحظة التي تقدم فيها الرعاية والحماية لمجموعة من الصحفيين و المغردين الذين يسخرون بأحكام موجودة في القران والسنة ويعارضونها علنا مثل “أبا الخيل” واعتبار الماء لا يفطر الصائم.. و”بن بخيت” والخمر ولحم الخنزير.. و “الجميعة” ووصفه لأبي بكر الصديق بالتكفيري المتطرف. وبالطبع لا يمكن هنا حصر شناعات المقرب من الديوان الملكي محمد آل الشيخ و أقاويله، ولا أقاويل المستشار غير العلني في الديوان الملكي د.تركي الحمد، الذي يفاخر بالقلم الذي أعطاه إياه الملك عبد الله وقال له اكتب ولا تخف من أحد، والذي اطلق عبارات الاستبشار الدعائية برؤية 2030 وبتولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، والذي لا يستطيع أحد من مجمع المصحف أو الحديث أو حتى من هيئة كبار العلماء الرد عليه.
العلمانية السعودية لها نمط معين يشبه وضع قشرة عسل على طبق مليء بالموبقات، وقد أثبتت حوادث كثيرة أنها لا تتردد في نسف أي مؤسسة دينية أو شخصية دينية إذا حاولت كشف هذا النمط، أو حاولت تعميق الدين بحيث يتجاوز القشرة الخارجية إلى العمق لإصلاحه أو تطهيره.
هناك مهارة سياسية في تطبيق العلمانية السعودية، ساعد عليها وجود قصور فكري في الطرف المقابل، أو وجود مخاوف شخصية أو عامة أو لأجل الاحتفاظ بالمزايا الشخصية، لذلك يمكن أن تمر حالة الرقص والغناء المختلط في شارع التحلية في الرياض بمثل مرور حفلة الغناء التي أقامتها هيئة الترفيه أمام مبنى هيئة الأمر بالمعروف، و “على عينك يا صانع” . يمكن للعلمانية السعودية أن تمارس تغيير المناهج والسماح للإعلام والمغردين بالنيل من ابن تيمية بوصفه داعية تطرف وجمود وانغلاق، في الوقت الذي يصرخ في السديس مستشهدا بأقوال بن تيمية وتلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب من منبر المسجد الحرام.
لا يوجد حتى الآن نظير للعلمانية السعودية التي تمكنت من استعمال الدين كأداة لترسيخ العرش، أو كفرشاة لطلاء قوائمه باللون الأخضر، وتمكن ممثلوها أيضا من استثمار العمليات التي نفذت بعد أحداث 11 سبتمبر في الداخل السعودي ليشكلوا لأنفسهم بذلك طوق نجاة وقد نجحوا في ذلك يوم كانت الأنظار الأمريكية المتهيئة للانتقام منصبة على السعودية بسبب كثرة الشباب السعوديين الذين نفذوا أو خططوا لأحداث سبتمبر، وتمكنت السعودية أن تشن حملة اعتقالات ضد المتطرفين المقاتلين ثم تقوم وتحت إشراف رئيس المخابرات حينها بندر بن سلطان بإطلاقهم من السجون وتسهيل وصولهم إلى العراق لينضموا إلى داعش، حسب كثير من التقارير. وحتى في الشأن السوري مارست العلمانية السعودية دورها في دعم فصائل وشخصيات تصفها بأنها متطرفة، في الوقت الذي عرقلت أو منعت فيه الدعم عن فصائل أخرى ليس لها علاقة بالتطرف.
لعل أخطر ما في العلمانية السعودية أنها تمكنت من خداع كثير من الناس في الداخل والخارج، على غرار هذه القصة الحقيقية التي كان بطلها الملك سلمان نفسه حين كان أميرا للرياض وذلك في 1993 حين نشط مجموعة من الإسلاميين في جامعة الملك سعود لتقديم عدد من المطالب الإصلاحية ومحاربة الفساد، وتشكلت لجنة للمطالب الشرعية والحقوق أطلق عليها اختصارا اسم “لجام”، وقام الأمير سلمان حينها بدعوة مجموعة من الإسلاميين من أساتذة جامعة الملك سعود وتحدث معهم عن نشأة الدولة على التوحيد مكررا قصة التحالف بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، ومنبها أن الدولة مستهدفة من العلمانيين الذين يريدون إسقاط دولة التوحيد وإبطال الشريعة ومن خلفهم الغرب والسفارات الغربية، ومؤكدا أنه مهما حصل بيننا وبينكم من خلاف فأنتم رصيدنا الحقيقي وشركاؤنا في مواجهة التغريب والعلمانية، وفي وقت لاحق دعا سلمان مجموعة أخرى من أساتذة نفس الجامعة من العلمانيين، و بسبب خلل في الدعوات والتنسيق دعي بعض الأشخاص الذين حضروا لقاءه الأول- وسبب الخلل معروف وليس من المناسب الإفصاح عنه في ظل القمع الموجود اليوم-. في اللقاء الثاني تكلم سلمان مع العلمانيين بأننا نريد تطوير البلد والانفتاح على العالم ولا يقف أمامنا سوى هؤلاء الإسلاميين الذين يسمون أنفسهم إصلاحيين، ونحن نعلم أنكم رجال فكر وتطوير ونهضة وأنكم الشركاء الحقيقيون لنا في مواجهة الفكر المتطرف المنغلق المتمثل في المشائخ التقليديين والآخرين الذين يعملون في الجامعات.
هذا المثال واحد من عشرات الأمثلة التي لا يتسع المجال هنا لسردها، والتي من خلالها يمكن معرفة النسق البنيوي للعلمانية السعودية.