عندما بدأت العولمة تخيم فوق سماء العالم، ارتكزت سحب “الاقتصاد العولمي” على جناحين يمثل الانفتاح المعرفي أحدهما، فيما تمثل الثورة التكنولوجية الجناح الآخر، ومع التسلسل الزمني ظهر في هذه السماء حراك جديد يؤثر على حركة المال والتجارة الدولية والعالمية، ويتمثل هذا الحراك في أقوى صوره عبر العملات الرقمية أو ما يعرف بـ”البيتكوين”، والتفاوت الفجائي في هبوط وصعود هذه العملات يلتقي بالحركة النمطية للعملات التقليدية فيومض كـ”برق” في سماء الاقتصاد، بينما يرتعد المستثمرون وأصحاب رؤوس الأموال عند سماع الأخبار المدوية عن حركة العملة الرقمية.
تكتسب العملة الرقمية قوة اقتصادية هائلة لحرية حركتها وتداولها ونقلها عبر الدول، وأنها لا تقع تحت مظلة الرقابة المحلية والدولية، كما أنها غير محددة الكم والكيف، وهو ما يمنح تداولها حرية الامتلاك بدون حد أقصى، وحرية التنقل بدون قيد، وحرية التخلص منها دون شرط، فباتت بابا خلفيا واسعا لعمليات تبييض الأموال في كثير من دول العالم، خاصة وأنها ليس لها مهد ولا لحد.
السواد الأعظم من دول العالم لم يصل لطريقة مناسبة للتعامل مع العملة الجديدة أو لقالب قانوني متوازن يستوعبها بالطريقة المثلى، بل أحجمت بعض البنوك العظمى في العالم عن الاقتراب منها خشية الخسائر، لا سيما وأن خسائرها في يوم واحد تتعدى أرباح أعوام، وقادرة على انتزاع إعلان إفلاس البنوك.
ونهاية الأسبوع الماضي نقل الوكالات الاقتصادية نبأ فقدان العملات الرقمية ما يقرب من 20 مليار دولار خلال 24 ساعة فقط، ليصل إجمالي ما تكبدته منذ مطلع العام الجاري أكثر من 600 مليار دولار.
بالتأكيد الأرقام مرعبة، والكيانات الاقتصادية الدولية والمؤسسات المحلية تخشى الاقتراب منها وتترك الباب مغلقا لمنعها من الدخول؛ لكنها بهذا لا تدرك أنها تمنحها قوة أكبر لسحب سيولة نقدية محلية، وتكتسب صلابة في مواجهة إجراءات المنع؛ وعلى النقيض تماما فإن محاولة التعاطي مع العملة الجديدة يحد من قوة توغلها، ويمنحها القناة الشرعية كي تضخ فيها ما تجمعه عبر روافدها المتنوعة.
هناك تجربتان تؤيدان وجهة نظري، الأولى هي تأخر الولايات المتحدة في إنشاء كيان لاستيعاب تداول العملات الرقمة، فحدث انخفاض في سعر تداول الدولار عالميا مقابل العملات الأخرى، ففي الوقت الذي قدمت فيه بعض شركات التقنيات المالية الأميركية ـ العام الجاري ـ مقترحا لهيئة الأوراق المالية الأميركية لإطلاق صندوق استثمار لتداول العملات الرقمية، تم تأجيل البت في الطلب وتأخيره إلى نهاية هذا العام، قبل أن تقرر الهيئة إرجاء قرارها إلى نهاية فبراير من العام المقبل، ومع ذلك تعرض الدولار لهزات عنيفة كان أغلبها مرافقا للأنباء السلبية عن ترنح العملات الرقمية.
التجربة الثانية هي مبادرة سويسرا بإنشاء أول صندوق تداول للعملات الرقمية في العالم من قبل بورصة SIX(وهي رابع أكبر بورصة في أوروبا) فحققت أسهم العملات الرقمية طفرة وتفوقت على الفضة والنفط الخام وتجارة الذهب، في الوقت الذي تماسك الفرنك السويسري أمام العملات العالمية، وأرجع بعض المحللين ـ في تصريحاتهم لوكالات الأنباء ـ ذلك إلى حماس المستثمرين في التوجه صوب صناديق العملات الرقمية.
التجربتان تقودان إلى أن ظهور العملات الرقمية ربما يكون سببا في الأزمة الاقتصادية العالمية التي تضرب العالم، وكذلك تأثر حركة التجارة الدولية وتذبذب العملات العالمية مقارنة ببعضها البعض على فترات متباينة، كما أن السوابق التجريبية تستدعي أن تقوم الحكومات بإجراءات اقتصادية حمائية تسمح من خلالها بتداول العملات الرقمية، وفي نفس الوقت يكون هناك عملية تقنين لانسياب هذه الأموال، فهي بذلك تسمح بتدفق وانسيابية الأموال ولكن تحت مرمى نظرها، وهو بطبيعة الحال أفضل كثيرا من تداولات تسري خلف ظهورها، حتى وإن كان مراحل التجريب الأولي غير مبشرة وبها أموال زائغة، إضافة إلى أنها تفتح طاقة نور للأجهزة الأمنية لتعقب الأموال وبيان مشروعيتها، وتجفيف منابع الأموال غير الشرعية.
أيمن حسين
كاتب مصري وباحث اقتصاد وعلوم سياسية