بمواجهة التحديات البيئية المعاصرة، ظهرت “الغابات المصغّرة” كحلّ مبتكر يجمع ما بين الاستدامة والجمال الطبيعي، مستلهماً من تقنية يابانية بيئية تسمّى “مياواكي” في إشارة إلى مُبتكرها.
تأتي هذه التقنية استجابةً لحاجة المدن المكتظة إلى مساحات خضراء حيوية وبديلة، خصوصاً في دول كإنكلترا، حيث يفتقر نحو ثلث السكان للوصول إلى مساحات طبيعية غنية، تكون قريبة من منازلهم.
أسّس عالم البيئة الياباني أكيرا مياواكي هذا النهج في السبعينيات من القرن العشرين، معتمداً على زراعة مكثّفة لأشجار محلّية متعدّدة الأنواع، فوق مساحات صغيرة، تعادل حجم ملعب تنس، حيث تنمو الأشجار بسرعة، وتخلق بيئة غنية بالتنوّع الحيويّ، مما يجعلها قادرة على دعم الحياة البرّية وتخزين الكربون بكفاءة.
بريطانيا تتجاوب مع مياواكي
انتشرت هذه الفكرة بشكل واسع في المملكة المتحدة، التي باتت اليوم تضمّ أكثر من 280 غابة مصغّرة بتقنية مياواكي، مزروعة في الأحياء السكنية والمدارس والأراضي المهملة. ويعود الفضل إلى مؤسسة “إيرث ووتش” Earth Watch الأوروبية، التي عملت على تنسيق زراعة هذه الغابات بالتعاون مع المجتمع المحلّي. أُنشئت أول غابة مصغّرة في مقاطعة ويتني، بالقرب من أكسفورد. وقد تحوّلت بسرعة إلى مختبر طبيعي حيويّ يجذب الأطفال للتعلم والتفاعل مع البيئة. وباتت هذه الغابة الصغيرة موطناً لأنواع متنوعة من الحشرات والطيور والنباتات، مما عزّز التنوع الحيوي وزاد من الوعي البيئي لدى السكان المحلّيين.
تعتمد تقنية مياواكي على زراعة متقاربة ومتعدّدة الطبقات لأشجار محلية متنوّعة، مما يخلق نظاماً بيئياً مكتفياً ذاتياً، بعد سنوات قليلة من نموه. ووفقاً لدراسات مؤسّسة “تري كاونسل” البيئية، حقق هذا النموذج معدّلات بقاء للنباتات أعلى من الزراعة التقليدية، وأقلّ تكلفة من حيث الصيانة على المدى الطويل. والمميّز في هذه الغابات أن لا تحتاج سوى القليل من التدخل البشري بعد السنوات الأولى من زراعتها، ممّا يجعلها نموذجاً عملياً ومستداماً للمدن المعاصرة.
التجاوب الاجتماعي
تلقّت تلك الفكرة دعماً إيجابياً من المجتمع البريطاني، إذ أدركت البلديات والجمعيات المحلية أهمية هذه الغابات كمساحات خضراء توفّر ملاذاً طبيعياً للتأمل، الاسترخاء، والتفاعل المجتمعي، بالشكل الذي يجعل منها نقطة التقاء بين الناس والطبيعة. كذلك، فإنها تزيد من الترابط المجتمعي عبر مشاركة أفراده في تخطيط وإنشاء وصيانة هذه المساحات.
وتبعاً لهذه النجاحات، تبرز إمكانية تطبيق “تقنية مياواكي” في المنطقة العربية أيضاً، إذ تواجه دول عربية عدة، من بينها لبنان، تحدّيات بيئية متفاقمة نتيجة شحّ المساحات الخضراء وزيادة التلوث وفقدان التنوع البيولوجي. وتعتبر الغابات المصغّرة فرصة ممتازة لتحسين جودة الهواء، وللتخفيف من تأثير الحرارة المرتفعة، خصوصاً في المدن التي تتّسم بطقس حارّ وجافّ. وبفضل نموذج مياواكي، يمكن إنشاء غابات مصغّرة حتى في الأماكن الصغيرة وغير المستغلة في المدن، مما يحسّن البيئة الحضرية ويخفّف من آثار التغير المناخي.
إلى ذلك، هنالك فوائد بيئية متعدّدة لهذه الغابات الصغيرة، إذ تشير الدراسات إلى أن نموّ الأشجار في المدن يُسهم في تحسين الصحة النفسية والجسدية، بفضل دورها في تخفيض درجات الحرارة، وامتصاص الكربون، وتحسين جودة الهواء، مما يوفر بيئة طبيعية تشجّع السكان على ممارسة النشاطات في الهواء الطلق. كذلك تُحسن هذه الغابات من جودة التربة، وتوفر مأوى للحياة البرية المحلية من نباتات وحشرات، في سياق تعزيز توازن النظام البيئي في المناطق الحضرية.
على محك التجربة
وبالرغم من أن تقنية مياواكي تُعتبر جديدة نسبياً في المناخات غير الاستوائية، فإن فوائدها في المملكة المتحدة أثبتت جدواها، وذلك على الرغم من بعض التحديات مثل تكاليف الزراعة والصيانة المرتفعة، خصوصاً في ظل تقلّبات المناخ. ومع أن دعم الحكومة البريطانية لمثل هذه المشاريع ما يزال محدوداً، فإن ازدياد دعم الجمعيات البيئية وأفراد المجتمع يعكس رغبة قوية في تبنّي هذا الأسلوب وتوسيع نطاقه ليصبح جزءاً من مستقبل الاستدامة البيئية في المدن.
وفي الوقت الذي تنتشر فيه الغابات المصغّرة كحلّ بيئي شائع في المملكة المتحدة، يمكن للدول العربية النظر في تطبيق هذا النموذج البيئي العصري، إذ يقدّم نموذج مياواكي إلهاماً لتبني تقنيات بيئية حديثة تتيح تنمية مساحات خضراء مستدامة تتناسب مع البيئة المحلية واحتياجات السكان.
في نهاية المطاف، تمثّل الغابات المصغّرة إضافة جمالية، وتشكل خطوة عملية نحو بناء مستقبل مستدام وصحيّ للمدن، مما يحقق توازناً بيئياً يعود بالنفع على الإنسان والطبيعة.
باختصار، تشير تجربة “الغابات المصغّرة” إلى وجود إمكانات كبيرة في إحداث تغيير حقيقي في البيئات الحضرية. ومن المستطاع تطبيقها كحلٍّ للتنمية المستدامة، ووسيلة لإعادة التواصل بين المجتمعات والطبيعة في إطار يحقق التكامل بين المكونات البيئية والمجتمعية. ومع ازدياد الاهتمام العالمي بمبادئ الاستدامة، يُتوقع أن تؤدي الغابات المصغّرة دوراً محورياً في تخفيف تأثيرات التغير المناخي على المدى الطويل.