الغرب الكولونيالي يتواجه مع أفريقيا في رواية “الأفريكانية”

1

كيف يمكن التخلص تاريخيا من لعنة الفصل العنصري بين الأغلبية السوداء والأقلية البيضاء؟

محمد السيد إسماعيل  

الروائية أريان داغنينو تحتفل بروايتها “الأفريكانية” (صفحة الكاتبة – فيسبوك)

لا يزال الأدب الأفريقي شعراً وسرداً ودراما مغيباً عن الوعي العام العربي، الأمر الذي يستلزم القيام بـ”موسم هجرة إلى الجنوب” شبيهة بـ”موسم الهجرة للشمال” للروائي السوداني الطيب صالح. والحق أن كثراً من الباحثين قد صنَّفوا الأدب الأفريقي على أساس جغرافي، وقد ساعدتهم الطبيعة على ذلك، ففصلوا بين شمال أفريقيا الذي تنتمي دوله إلى العالم العربي، والجنوب الأفريقي الذي تفصله الصحراء الكبرى، والذي اصطلح على تسميته “أفريقيا السوداء”. وبناء على ذلك حصر أستاذ الأدب الأفريقي في جامعة كارلينغي في أميركا جوريس سيلينكس، الأدب الأفريقي في “الإنتاج الأدبي للشعوب الواقعة جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى”. ورغم أن هذا الإنتاج يشكل المتن الرئيس للأدب الأفريقي، فإنه يقصي الأدب المكتوب في أقطار أخرى مثل ما يعرف بأدب الزنوج المنحدرين من أصول أفريقية في أميركا، والأدب الذي يكتبه الأفارقة في بعض الدول الأوروبية. لهذا فأنا أميل إلى التعريف الذي يرى أن الأدب الأفريقي هو “الذي يصور واقعاً أفريقياً في كل أبعاده”، بغض النظر عن اللغة التي كُتِب بها. وهكذا يتسع مفهوم الأدب الأفريقي فلا يرتبط بمكان أو عرق أو لغة. المهم فقط هو التعبير عن القضايا الأفريقية .

المجتمع القوسقزحي

بهذا المفهوم يمكن أن نتناول رواية “الأفريكانية” (المركز القومي للترجمة، القاهرة، ترجمة مروة ممدوح سالم) لأريانا داغنينو التي ولدت في جنوا في إيطاليا ودرست في لندن وموسكو وبوسطن، ولم تقض إلا عدة أعوام في دولة جنوب أفريقيا، قبل أن تنتقل بصفة دائمة إلى كندا. ورغم ذلك فقد استطاعت أن تطرح إحدى القضايا الأفريقية، وهي “لعنة الأبارتيد”، أو الفصل العنصري بين الأغلبية السوداء والأقلية البيضاء. ومن المهم ملاحظة أن الأفريكاني يختلف عن الأفريقي، فالأفريكانيون هم أحفاد الهولنديين الأول الذين وطأت أقدامهم القارة السوداء ليعيثوا فيها، كما تقول المترجمة مروى ممدوح سالم، “إعماراً وفساداً في الوقت ذاته، ويستبيحوا عذرية أرضها كما استباحوا عذرية النسوة الأفريقيات، رغم كونهن – في حقيقة الأمر- سيدات وبنات أسياد هذه الأرض الأصليين”.

ما بعد الأبارتيد

تبدأ “الأفريكانية” من الفترة المتوترة التي أعقبت الخلاص من نظام الفصل العنصري، وما قام به “السود” من ردود فعل انتقامية من قاهريهم البيض. ويلعب وصف المكان دوره في تأكيد هذه الأجواء المقبضة حين تتحول جوهانسبرغ إلى واحدة من أكثر مدن العالم خطورة. وكان من نتيجة ذلك قتل “داريو أولداني” الباحث الإيطالي الشاب الذي كان يعيش في جنوب أفريقيا، وهو زميل بطلة الرواية عالمة الحفريات الأفريكانية الأصل “زوي دي يليسين” وحبيبها. تقول الكاتبة على لسان “داريو” واصفة جوهانسبرغ: “كانت المصابيح المتناثرة على الطريق تسلط أضواء مزعجة، كأنها جزر مشتعلة تكشف المدينة، وقد بدا وسط البلد في هذه الليلة – كليال أخرى كثيرة – مهجوراً خالياً من أي شخص، إلا من الأشباح الثلاثة التي أطبقت علي من عالم الظلام”. ورغم أن “داريو” كان مجرد زائر وليس من سكان جنوب أفريقيا، فإن أحد الأشباح الثلاثة التي انقضت عليه يقول له: “وهل هذا يجعلك أفضل من البيض الآخرين؟”.

غلاف الأفريكانية.jpg

الرواية بالترجمة العربية (المركز القومي)

“زوي”، على العكس من حبيبها، من سكان أفريقيا، مما جعلها تستشعر الخطر المحدق بها ، فتقوم برحلة طويلة إلى صحراء كالاهاي، باحثة عن حفريات الإنسان الأول. وفي مقابل هذا البحث، تقوم برحلة في أعماق نفسها، فتصبح وجهاً لوجه مع سر عائلتها وما يطاردها من شعور بالذنب لاضطهادها الأفارقة. وفي هذه الرحلة المضنية تلتقي إحدى عجائز “البوشمان” فتطلعها على بعض الأسرار، كما كان اطلاعها على مذكرات عمتها “كلير” حول تجربتها العاطفية الفاشلة، سبباً في نفورها من الرجال، حتى أطلق عليها زملاؤها “عذراء الحفريات”. وعندما استفسرت “زوي” عن سر هذه التسمية، قال لها أحد زملائها: “من الأيسر لكِ أن تمنحي نفسك لأوسترالوبيثيكوس – قرد جنوبي – عن أن تفعليها مع رجل”.

اللعنة الممتدة

تبدأ القصة حين شرع جد “زوي” ويدعى “غوستاف”، في الإنتقام لقتل زوجته بمهاجمة قرية الكوسيين مع شخص آخر، فقتلا كل من وجدا في طريقهما؛ شيوخاً كانوا أم نساء أم أطفالاً. وأثناء عودتهما اعترضت طريقهما عجوز وصرخت في وجه “غوستاف” بكلام لم يفهمه، وحين سأل خادمه الذي كان يعرف اللغة الكوسية عن معناه، قال له إن المرأة عرَّافة وليس بمقدوره ترديد كلماتها، فقد حوت لعنة رهيبة، لكنه ذكر، بعد تهديد “غوستاف” له بالقتل إن لم يتكلم، أنها قالت “أيها الرجل الأبيض، من الآن فصاعداً ستشهد كل النساء البكريات في عائلتكم موت رجالهن قبل أن يرزقن منهم بالذرية، فلتحل عليكم اللعنة جميعاً إلى الأبد”. وهي اللعنة التي ظلت تطارد رجال العائلة حتى أطلق “غوستاف” الرصاص على نفسه.

اقرأ المزيد

في حوارات مطولة داخل الرواية بين “زوي”، و”كيرت فان دير” الكاتب الشهير و”زيلدا” و”ستيف” أكبر مستوردي النبيذ من الساحل الشرقي، يطرح هذا السؤال: “لم ننجذب نحن الغربيين بصورة مرضية إلى هذه القارة؟”. وتكون الإجابة: “لعله الجشع”، أو أنه “دائماً ما يكون هناك جديد يأتي من أفريقيا حسب قول الكاتب اليوناني “بلينيوس الأكبر”.

التباس الهوية

يذهب “كيرت” إلى أنه “لم يعد من الممكن فصل الثقافات المختلفة لجنوب أفريقيا مثلها مثل شرائح اللحم المختلطة بالخضروات، إلى حد يصعب معه الفصل بينهما، لكن هذا لا يعني أن عليك إعداد حساء منها، وإلا كل ما ستحصلين عليه سيكون أمة  قوس قزحية ماسخة الطعم”. ويرى “سيريل” أن “التنوع أمر صحي، يمكن أن يتقبل بعضنا بعضاً ونعيش معاً من دون أن نتخلى عن اختلافاتنا. فليس من المفيد أن نختزل أنفسنا في قاسم مشترك أعظم”. ويضرب “أندريه” مثالاً على ذلك بكندا وأستراليا كنموذجين ناجحين لتعدد الثقافات. ولا يستبعد “كيرت” تمازج الأجناس والاختلاط الجيني بشرط أن يتحقق ذلك بطريقة طبيعية لأنه “لا يمكن أن نهندس التهجين اجتماعياً، والشىء نفسه ينطبق على الاندماج”. وهو أمر يمكن حدوثه نظراً للتاريخ الطويل المشترك الذي عاشه البيض والسود والملونون.

“سيريل كونيتي” زميل “زوي” أفريقي أسود، لاقى أجداده العذاب والقمع على يد الأفريكانز، لكنه يتحدث لغتهم. وهذا أدهش “زوي”: “رجل أسود يختار أن يتحدث بالأفريكانز التي هي لغة القامع القديم. عمدنا نحن الأفريكانيين إلى محوها من حياتنا خجلاً من أن تكشف عن دمائنا الحقيقية”. وهذا ما تفعله “زوي” حيث لا تتحدث لغة الأفريكانز حتى مع أهلها في العلن. ورغم هذه المحاولات اللغوية، إن صحّ التعبير، يظل العِرق أمراً محورياً في تشكيل فكرة الناس بعضهم عن بعض، وبالتالي في تحديد كيف يتصرف الواحد إزاء الآخر. وفي هذا السياق تحضر الكولونيالية الجديدة في جوهانسبرغ التي تقف فيها “أفريقيا والغرب يحدق كل منهما في الآخر بقوة، إنها رموز القوى الاقتصادية الأنغلوساكسونية، وقد اصطفت بعناية جنباً إلى جنب في مواجهة عالم مواز من اللاوعي الأفريقي”. وهكذا يتحول المكان إلى مرآة تعكس تجاور الماضي البعيد والحاضر والمستقبل، داخل إطار زمني واحد. إن اللون الأبيض ثقافة تعيش داخل الإنسان أكثر من كونه مجرد لون، ف”زوي” تعشق أفريقيا وأبعدت نفسها عن العنف الدائر فيها غير أن “ثقافتها البيضاء قد عزلتها عن محيطها، صحيح أنها تربّت كفتاة أحراش إلا أن فكرها منغمس في الأدب والموسيقى والفن والعلوم الغربية”. هذه الرواية تكاد تقول كل شىء عما حدث أثناء الأبارتيد وبعده وما يثار حول الهوية في محاولة للخلاص من هذا الإرث الثقيل الذي يتحمله الجميع.

التعليقات معطلة.