كثيراً ما يتم تشخيصها خطأً بالقولون العصبي لتشابه الأعراض
قد يشكو أحدهم لسنوات من أعراض مزعجة في جهازه الهضمي، ويظل يتنقل من طبيب إلى طبيب ربما لسنوات دونما جدوى في الوصول إلى تشخيص طبي. أو أن يتم تشخيصه في آخر الأمر بـ«القولون العصبي»، ثم يتنبه أحد الأطباء بعناية للحالة، ويكون الأمر بسبب الغلوتين في القمح، وليس القولون العصبي.
إن معاناة البعض بعد تناول القمح أو أي أطعمة أو مشروبات تحتوي عليه، كالخبز أو المعجنات أو المعكرونة أو خلّ القمح أو البيرة (بخلاف المشروبات الكحولية المقطرة الصافية المستخلصة من القمح Wheat، مثل الفودكا أو الجن أو الويسكي)، هي غالباً بسبب وجود بروتين الغلوتين Gluten. وهو بروتين يوجد أيضاً في الشعير Barley والجاودر Rye.
والواقع، أن الاضطرابات المَرضية التي يتسبب بها تناول الغلوتين، هي بالفعل ذات أهمية لأربعة أسباب رئيسية، وهي:
* الأطعمة المشتقة من القمح هي، وببساطه شديدة، من أكثر المنتجات الغذائية تناولاً، والغلوتين يشكل نسبة 80 في المائة من البروتينات في الخبز والمعكرونة. وكما يقول أطباء كليفلاند كلينك: «الغلوتين موجود في عدد لا يحصى من الأطعمة والمشروبات، وغيرها من المنتجات».
* الأمراض المرتبطة بالقمح شائعة لدرجة تقارب أو تفوق انتشار أمراض شرايين القلب أو ارتفاع الكوليسترول أو مرض السكري (كما سيأتي). ومع ذلك، قلما يُلتفت إلى احتمالات تسببه بأي مشاكل صحية أو تداعياتها، على الرغم من تنبه الأطباء القدماء جداً إلى هذا الأمر، مثل إشارة أريتايوس القبادوقي (واحد من أشهر الأطباء الإغريق القدماء) في عام 250 بعد الميلاد، إلى حالة كوييلياكوس Koiliakos (كويليا Koelia كلمة يونانية تعني البطن) مرتبط بتناول القمح.
* تفاعل الجسم سلبياً مع دخول الغلوتين يختلف بين الناس، ويأخذ طيفاً واسعاً من الحالات المرضية المختلف بعضها عن بعض. وبالتالي، يتخذ هيئات مرضية «مُربكة» في التصنيف الطبي (مع عدم وجود اتفاق طبي واضح في تصنيفاتها)، وكذلك في التشخيص الإكلينيكي وكيفية التيقن من ذلك. وهذا كله نتيجة «وضوح» جوانب و«غموض» جوانب أخرى في آليات الفسيولوجيا المَرضية Pathophysiology التي تحصل في أجسام بعض الناس بعد تناول أي نوع من الأطعمة المحتوية على الغلوتين.
* تشابه أعراض الجهاز الهضمي بعد تناول القمح، لدى البعض الذين لديهم «مشكلة» مع تناول الغلوتين، يجعل الكثير منهم يُصنفون مرضى مُصابين بـ«القولون العصبي»، وهم ليسوا كذلك بالفعل (كما سيأتي توضيحه).
حالات الغلوتين المرضية
وما هو معروف طبياً حتى اليوم من هيئات الحالات المرضية التي يتسبب بها تناول القمح المحتوي على الغلوتين هو:
– إما على هيئة مرض سيليك Celiac Disease لنوعية محددة من «حساسية» الغلوتين.
– أو على هيئة «حساسية غير سيليك للغلوتين» NCGS، كنوع من حساسية الطعام العامة.
– أو على هيئة حالة «عدم تحمل» بروتين الغلوتين Gluten Intolerance، دون وجود تفاعلات حساسية بالمعنى الدقيق.
– أو على هيئة ترنح الغلوتين Gluten Ataxia.
– أو على هيئة التهاب الجلد الحلئي الشكل Dermatitis Herpetiformis.
وفي إحدى المراجعات العلمية (المكتبة الوطنية الطبية الأميركية National Library of Medicine، أكتوبر/ تشرين الثاني 2022) لكتاب طبي بعنوان «المشاكل الطبية المرتبطة بالغلوتين»، كتبه باحثون من جامعة ولاية ميشيغان وجامعة نيفادا، أفادوا بالقول: «الغلوتين هو موضوع حديث، يحظى باهتمام وأبحاث كبيرة. والغلوتين مهم للأطباء؛ لأنه يحتوي على مجموعة من الأمراض المرتبطة به. ولقد أصبح محبوباً من قِبل وسائل الإعلام على مدى السنوات القليلة الماضية؛ وذلك لمجموعة متنوعة من الأسباب الطبية وغير الطبية. وقد أدى الاهتمام إلى ظهور مجموعة كبيرة من المؤلفات والمعلومات التي تكون مربكة ومضللة في بعض الأحيان. وتحتاج الأمراض المرتبطة بالغلوتين إلى تصنيف بناءً على الحقائق الطبية المؤكدة».
وبالتالي، يشكل هذا «الارتباك»، إشكالية في التشخيص والمتابعة الطبية، ودرجة إجراء الفحوص، وأيضاً في طريقة المعالجة، والمضاعفات والتداعيات المستقبلية.
وفي مراجعة طبية بعنوان «حساسية غير سيليك للغلوتين: العرض الإكلينيكي والمسببات والتشخيص التفريقي»، (عدد أغسطس/ آب – سبتمبر/ أيلول الماضيين من مجلة «طب الجهاز الهضمي والكبد» Gastroenterology & Hepatology) أفاد باحثون من إسبانيا بأن: «حساسية غير سيليك للغلوتين هي أحدث الأمراض المدرجة في مجموعة الاضطرابات المرتبطة بالغلوتين». وبعد استعراضهم ما هو متوافر من معلومات علمية وإكلينيكية حتى اليوم عن هذه الحالة الحديثة الوصف طبياً، قال الباحثون: «هناك حاجة إلى مزيد من البحوث حول حساسية غير سيليك للغلوتين؛ لتحسين فهم مسبباتها المرضية والسمات الإكلينيكية».
وأكد على هذا الواقع من عدم الوضوح لدى الأوساط الطبية، باحثون من كليفلاند كلينك في دراستهم بعنوان «الاضطرابات المرتبطة بالغلوتين من المقعد (في المختبر) إلى السرير (في غرفة المريض)»، والمنشورة ضمن عدد أكتوبر الماضي من مجلة «علم أمراض الكبد والجهاز الهضمي الإكلينيكي» Clin Gastroenterol Hepatol. وقال فيها الباحثون الأميركيون: «يشكل كل من مرض سيليك، وحساسية غير سيليك للغلوتين، وحساسية القمح، ثلاث من الحالات الرئيسية التي يحفز الأعراض فيها (تناول) الأطعمة التي تحتوي على القمح والغلوتين. إن التميز بين هذه الحالات قد يكون أمراً شاقاً».
انتشار الإصابات وصعوبة التشخيص
واللافت في الأمر، أن هذه الحالات بعمومها ليست نادرة، ولكن لا يتم بشكل واضح تشخيصها. وبلغة الإحصاء والأرقام، فان إجمالي معدلات الإصابات بين الناس بها، كما تفيد بعض المصادر الطبية، تفوق في الواقع معدلات انتشار الإصابات بأمراض شرايين القلب. وتشير بعض المصادر الطبية إلى أن انتشار كل أنواع المعاناة من الغلوتين، قد تصل إلى 13 في المائة من الناس في بعض المجتمعات.
وفي التفصيل، فإن معدل انتشار مرض سيليك في عموم الناس من بعض مناطق العالم (بناءً على نتائج اختبارات تحاليل الدم المصلية Serologic Test) يبلغ ما بين 1.5 في الولايات المتحدة و2 في المائة كل من إيطاليا وفنلندا. ولكن، ووفق ما تفيد به مؤسسة مرض سيليك في كاليفورنيا Celiac Disease Foundation: «يتم تشخيص نحو 30 في المائة فقط منهم بشكل صحيح». وأن 83 في المائة يتم تشخيصهم بشكل خاطئ بأمراض أخرى في الجهاز الهضمي، وخاصة القولون العصبي. وتضيف الإحصائيات الأميركية، أن المريض بسيليك يُمضى ما بين 6 و8 سنوات وهو يتنقل بين الأطباء، كي يصل إلى طبيب يُشخص حالته بشكل صحيح. وأن الواحد من هؤلاء الذين لم يتم بعد تشخيصهم بمرض سيليك، يُنفقون على صحتهم مبلغ 5 آلاف دولار سنوياً أكثر من غيرهم، مقارنة بالناس الأصحاء. وأن معدل الانتشار العالمي لمرض سيليك يتراوح ما بين 5 و10 في المائة بين المجموعات المعرضة بشكل أعلى للإصابة به، أي الذين لديهم إما متلازمة داون Down Syndrome أو متلازمة تيرنر Turner Syndrome، أو مرض السكري من النوع 1 T1DM، وأمراض الغدة الدرقية الناجمة عن اضطرابات المناعية الذاتية. وتشير بعض الدراسات الشرق أوسطية إلى أن معدل انتشار مرض سيليك بين المصابين بمرض السكري من النوع 1 هي 12 في المائة، أي ضعف معدل الانتشار العالمي البالغ 6 في المائة.
وفي معدلات انتشار حالات عدم تحمل الغلوتين، يقول أطباء كليفلاند كلينك على موقعها الإلكتروني: «يعاني نحو 6 في المائة من سكان الولايات المتحدة حالة عدم تحمّل الغلوتين».
مرض سيليك… آليات مَرَضية واضحة
يحدث مرض سيليك نتيجة رد فعل مناعي في الأمعاء الدقيقة، تجاه تناول بروتين الغلوتين في القمح، نتيجة وجود استعداد جيني لدى الشخص.
وعندما يتفاعل الجهاز المناعي للجسم بشكل مفرط مع الغلوتين الموجود بالطعام، فإن هذا التفاعل يتلف النتوءات الشعرية الصغيرة، الزغابات، التي تبطّن الأمعاء الدقيقة. والزغابات هي المكان الذي تُمتص فيه الفيتامينات والمعادن والعناصر المغذية الأخرى من الطعام الذي نأكله.
وفي حال تضرر وضمور الزغابات Villous Atrophy، لن يمكننا الحصول على ما يكفينا من العناصر المغذية، بغض النظر عن مقدار ما نتناوله من الأطعمة المحتوية عليها. وبالتالي، كما تفيد الكثير من مصادر طب الجهاز الهضمي والمناعة، يتسبب هذا التلف المعوي غالباً في ظهور أعراضٍ لها علاقة من جوانب عدة بسوء الامتصاص Malabsorption، مثل الإسهال، أو التعب، أو فقدان الوزن، أو الانتفاخ، أو فقر الدم، أو فقدان كثافة العظام، أو تنميل ووخز في القدمين واليدين، أو الإصابة بمشكلات محتملة في التوازن، أو ضعف الإدراك. ويمكن أن يؤدي أيضاً إلى مضاعفات أبعد (مثل العقم)، في حال عدم علاجه أو السيطرة عليه.
وثمة طريقة طبية منهجية واضحة الخطوات، في تشخيص هذه الحالات، وصولاً إلى التشخيص بشكل يقيني.
وعلى الرغم من عدم وجود علاج دوائي محدد يشفي من مرض سيليك، فمن الممكن أن يساعد اتباع نظام غذائي «صارم» و«خالٍ تماماً» من الغلوتين، في علاج الأعراض وتعافي الأمعاء لدى معظم المصابين.
بين «حساسية غير سيليك» ضد الغلوتين وعدم تحمله
إضافة إلى مرض سيليك ذي التصنيف الطبي الواضح، يوضح أطباء كليفلاند كلينك، أن المرء قد يكون مصاباً بحالة «عدم تحمل الغلوتين» Gluten Intolerance إذا شعر بالتعب أو الغثيان أو الانتفاخ بعد تناول الأطعمة المحتوية على الغلوتين، وخاصة الخبز أو المعكرونة. أي بأعراض شبيهة بتلك التي تصاحب «القولون العصبي».
كما أن البعض الآخر قد تظهر لديه، بعد تناول الغلوتين، حالة ثالثة، هي «حساسية غير سيليك للغلوتين» NCGS.
وأضافوا: «يسبب عدم تحمل الغلوتين والحساسية من الغلوتين، الكثير من الأعراض نفسها التي يسببها مرض سيليك، ولكنهما ليسا الحالة نفسها. والأشخاص الذين يعانون عدم تحمل الغلوتين ليس لديهم حساسية فعلية للغلوتين، وليس لديهم جين غير طبيعي، ولا تظهر في دمائهم أجسام مضادة ضد الغلوتين».
والأسباب الدقيقة لعدم تحمل الغلوتين ليست مفهومة جيداً. وتظهر بعض الأبحاث أن هؤلاء الأشخاص قد لا تكون لديهم مشكلة مع بروتين الغلوتين نفسه، ولكن تجاه أنواع أخرى من الكربوهيدرات الموجود في الكثير من الأطعمة التي يتواجد فيها الغلوتين. وأجسادهم لا تهضم وتمتص هذه الكربوهيدرات كما ينبغي. وبالتالي؛ عندما تصل تلك الكربوهيدرات إلى الأمعاء الغليظة (القولون) وتتخمر فيها، تظهر أعراض هضمية مزعجة. ولذا؛ يتم في الغالب تشخيصهم خطأً بمرض القولون العصبي.
وحول سؤال: هل عدم تحمل الغلوتين هو حساسية الغلوتين؟، أفاد أطباء كليفلاند كلينك بالقول: «عدم تحمل الطعام وحساسية الطعام ليسا الشيء نفسه. تحدث حساسية الطعام، مثل حساسية القمح، عندما يبالغ جهازك المناعي في رد فعله بعد تناول طعام معين. وقد تسبب الحساسية الحكة أو القيء أو ضيق التنفس».
الـ«حساسية» من طعام معين تختلف عن «عدم تقبل» الجسم له
إن ظهور تفاعلات ومظاهر الـ«حساسية» في الجسم بعد تناول طعام معين، هو نتيجة تفاعل الجهاز المناعي.
أما ظهور أعراض ومظاهر «عدم تقبل» الجسم لتناول طعام معين، فهو نتيجة تفاعل الجهاز الهضمي.
ومظاهر «الحساسية» يمكن أن تظهر إما في الجهاز الهضمي أو على مناطق مختلفة من الجسم خارج الجهاز الهضمي. ولكن مظاهر «عدم التقبل» تظهر غالباً في الجهاز الهضمي وحده.
والحساسية بالأصل، ردة فعل يُبديها جهاز المناعة تجاه مركبات كيميائية معينة موجودة في الطعام. وغالب تلك المركبات الغذائية هي «بروتينات». مثل الحساسية من الفول السوداني أو البيض أو الأسماك أو السمسم أو الموز، وغيرها. ولذا؛ فإن تناول، ولو كميات صغيرة من ذلك الطعام الذي يحتوي على المركبات المسببة للحساسية، يمكن أن يؤدي إلى ظهور مجموعة مختلفة من الأعراض، والتي يمكن أن تكون حادة أو مهددة للحياة.
ولكن في المقابل، تعكس أعراض حالات «عدم تحمل» طعام معين، معانة المرء من صعوبة تواجه الجهاز الهضمي في إتمام عمليات هضم ذلك الطعام المعين أو مجموعة غذائية معينة فيه.
ومن أشهر أمثلة ذلك، عدم تحمل سكر اللاكتوز Lactose Intolerance. وسكر اللكتوز هو السكر الرئيسي في الحليب؛ ما يعني أن الأشخاص الذين لديهم حالة «عدم تحمل اللكتوز» سيواجهون صعوبة في هضم الحليب ومشتقات الألبان (ما عدا لبن الزبادي).