كمال خلف
استهداف المدنيين في المعركة القائمة الآن في الغوطة أو في أي معركة على وجه هذه الأرض عمل غير إنساني وغير اخلاقي ويجب أن يكون مدانا بالمبدأ وفوق أي اعتبار ، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن الملف الإنساني والتعاطف مع المدنيين في أوقات المعارك يستخدم أيضا في المزاد السياسي ، وتستخدمه كذلك أطراف الصراع كوسيلة ضغط ضد بعضها لتحقيق أهداف عسكرية بحته .
وليس مفاجأة أن تجد أحدى القوى أو الدول أو الجماعات او حتى المؤسسات الاعلامية ترفع الشعار الإنساني وتحمل على عاتقها قضية تعرض مدنيين للقصف أو الحصار في مكان ما ، في الغوطة الشرقية لدمشق الآن مثالا ، وهي ذاتها غارقة حتى اذنيها بدماء الأبرياء في مكان آخر . قضية الملايين من الشعب اليمني الذي يسفك دمه كل ساعة بقذائف الطائرات السعودية ، يحاصر ويموت أطفاله من الجوع والمرض مثالا صارخا على صمت دولي وحقوقي وإعلامي محير .
إذا مازال يجرنا أصحاب المال ومالكو امبراطوريات الإعلام إلى التعاطف الانتقائي المبني على المصالح ، ولا يتركوا مجالا للعاطفة الإنسانية النقية التي ترى الإنسان إنسانا ، أينما كان ومن أي جنسية أو طائفة أو عرقا يكن .
في الغوطة الشرقية حيث التركيز الدولي اليوم على حوالي 300 الف من سكانها ، مع بداية انطلاق العملية العسكرية للجيش السوري لطرد مسلحي جبهة النصرة واخوتها، في كل ساعة ستجد أمامك تصريحا لمندوب دولة كبرى، أو تقريرا لمؤسسة حقوقيه دولية أو تحذيرا من الأمم المتحدة ، الكل يطالب بوقف العملية العسكرية ، ويشير إلى الضحايا المدنيين جراء القصف على مناطق الغوطة الشرقية . بموازاة ذلك تعمل الماكينات الإعلامية ذاتها الصامتة عن المجزرة في اليمن وعن المجزرة في عفرين جراء القصف العنيف للقوات التركية ومليشياتها التي مثلت بجثث القتلى متوعدة أهل عفرين بمصير الايزيديات في سنجار ،تعمل هذه الماكينات الآن لإبراز الشق الإنساني فيما يجري في الغوطة الشرقية . ولكن في المقابل الا يقطن إلى جوار الغوطة في مدينة دمشق 3 ملايين مواطن سوري مدني يتعرضون للقصف من قبل جبهة النصرة وأخواتها في الغوطة منذ اكتر من 4 أعوام ، وخلال 24 ساعة الماضية فقط قتل 14 مدنيا في أحياء دمشق ، وعشرات الجرحى ، عدا عن القتلى في الاحياء و المناطق المجاورة للغوطة مثل ضاحية حرستا وجرمانا. لماذا يحذف هذا الجزء من المشهد في الحديث السياسي والإعلامي عن المأساة الإنسانية . هل مقياس التعاطف يخضع لفرز من هو تحت سلطة الحكومة ومن هو تحت سلطة المعارضة ؟
تتحدث الأرقام التي مصدرها المعارضة عن 200 قتيل حتى الآن في الغوطة ، لابد أن نتذكر أن أقتتال الفصائل المسيطرة على الغوطة العام الماضي أوقع ضعف هذا الرقم خلال أيام فقط من التناحر بين جيش الأسلام وفيلق الرحمن في معركة واحدة ، وجرى بعدها عدة معارك متباعدة أوقعت العشرات من القتلى المدنيين ، واليوم يختبئون خلف المدنيين لوقف الحملة لاجتثاثهم واخراجهم من الغوطة . إن سكان الغوطة رهائن ودروع بشرية لهؤلاء الراغبين في البقاء في الغوطة يتقاسمون مناطقها واحياءها ويتقاتلون انعكاسا لخلافات داعميهم في الإقليم . هذه هي الحقيقة .
لابد أن نقول أن التعاطف الإنساني لا يجب أن يقتصر على القتلى فهناك أحياء يعيشون تحت سلطة فصائل تتقاتل فيما بينهما بلحم المدنيين ، ويقيمون محاكم يقضي فيها شرعيون جهلاء على الناس بأحكام تتساوى مع أحكام داعش من حيث قسوتها وظلمها. من حق هؤلاء أن يعيشوا في بلادهم تحت سلطة قانون الدولة التي ينتمون لها . إن تركهم والدفاع عن بقائهم تحت رحمة جماعات تحكمها عقيلة الانتقام ،هو الإجرام بحقهم وهو ما يستحق الإدانة .
فلنتذكر حلب واحياءها الشرقية ،إنظروا اليها اليوم عادت إلى الحياة ، وعاد أهلها الكرام يعمرون بيوتهم و يعيدون فتح معاملهم التي سرقتها الجماعات المسلحة ونقلتها إلى تركيا ، هل يستطيع أحد إنكار ذلك ؟ .
إن إسقاط النظام بالقوة العسكرية بات من الماضي البعيد ، وأن ابقاء الناس تحت رحمة الجماعات المسلحة إطالة في أمد معاناتهم فقط ، وإذا كان ثمة تغيير مطلوب في سوريا فهو اليوم متاح عبر المسارات السياسية والحوار بين السوريين والطرق الديمقراطية التي يقول فيها الشعب أي نظام وأي حكم يريد . التغيير في سوريا عبر جبهة النصرة أو فيلق الشام أو جيش السلطان مراد أو كتيبة أبو عماره … الخ ، هو تغيير نحو الكارثة وهو مراهنة إدامة سفك الدم وقتل الميت والبكاء في جنازته .
نتعاطف مع كل ضحية على الأرض السورية بل العربية وفي اي مكان في هذا العالم من الأبرياء والمدنيين العزل والأطفال ، مهما كان انتماؤهم . فلتخرجوا هذا الإحساس الإنساني النبيل من مزادات السياسية .