مقالات

الـ «ناتو»… تحالفاتٌ في مهبّ التغيير

 
نبيل نجم الدين
 
في ظل إرهاصات التغييرات الدرامية التي تُحدق وتعصفُ بمناطق عدة في العالم، وعمل قوى دولية لإعادة رسم الخرائط السياسية والجغرافية، يبدو أن منظمة حلف شمال الأطلسي NATO أصبحت هي أيضاً في مهب تلك التغييرات غير المسبوقة منذ قيام الرئيس الأميركي هاري ترومان بالتوقيع على اتفاق تأسيس الحلف في الرابع من نيسان (أبريل) 1949م.
 
 
كان تأسيس الـ»ناتو» انتصاراً لمفهوم التعاون عبر المحيط الأطلسي بين أوروبا القارة العجوز، والإمبراطورية الأميركية الصاعدة بقوة في المشهد الدولي.
 
لكن من العجب أن الدولة التي ساهمت في تأسيس الحلف وتطويره بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بغرض توحيد قوى ما يسمى بالعالم الحر، في مواجهة الاتحاد السوفياتي المنحل وقوى المعسكر الشيوعي الغابر التي تجمعت عام 1955م في ما كان يُعرفُ بحلف وارسو، يبدو أنها هي التي يسعى رئيسُها الحالي دونالد ترامب، سعياً حثيثاً، نحو إعادة النظر في آليات حلف الـ»ناتو». ويبدو أن مراكز القرار في واشنطن تسعى أيضاً نحو إرساء معالم عالم جديد مختلف تماماً عن عالم معسكري «وارسو، والناتو»، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه عالم ما بعد ضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) 2001م.
 
لكن السؤال هو: أيُ عالم جديد هذا الذي تسعى إليه الإدارة الأميركية؟ وأي تحالفات دولية جديدة ستتمخض عن ذلك؟ للإجابة، ينبغي علينا استدعاء ملامح المشهد الدولي إثر نهاية الحرب العالمية الثانية. كان توقيع بلجيكا وهولندا ولوكسمبرغ وفرنسا وبريطانيا، على إتفاق بروكسل للدفاع المشترك في 17 آذار (مارس) 1948م لمواجهة الخطر الشيوعي، هو الخطوة الأولى في الطريق إلى تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي في العام 1949م. المثير، أن الخطر السوفياتي سرعان ما أطلّ برأسه على أوروبا آنذاك بحصار برلين، وبانقلاب الشيوعيين في تشيكوسلوفاكيا على الحكومة الديموقراطية المنتخبة. وهكذا دارت عجلة تأسيس حلف الـ»ناتو»باجتماعات بين الساسة على جانبي الأطلسي وأدت إلى ولادة اتفاق تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي NATO، والذي وقّعت عليه الولايات المتحدة وكندا والبرتغال والنروج وإيطاليا والدنمارك وآيسلندا، إضافة إلى الدول الخمس التي وقعت على اتفاق بروكسل للدفاع المشترك. وانطلقت تلك المنظمة من أن الرؤية الأمنية الاستراتيجية الجماعية لها ثلاث أولويات هي: أولاً، إبقاء الاتحاد السوفياتي خارج القارة الأوروبية. ثانياً، الحرص على وجود الولايات المتحدة في أوروبا. ثالثاً، العمل على ألا يتعدى التأثير والنفوذ الألمانيان خطاً محدداً. وضربت الأمن الدولي أزمات دولية كثيرة منذ تأسيس الحلف، أبرزها الحرب الكورية في عام 1950م، وحرب السويس في 1956م، ثم أزمة خليج الخنازير في كوبا عام1961 م. ثم كان انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط سور برلين في 1989م، واندلاع الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك، التي دفعت الأطلسي إلى أول تدخل عسكري في تاريخه في الفترة بين 1992م و1995م. ثم فوجئ العالم بكارثة الهجوم والتدمير غير المفهوم لبرجي التجارة العالمية في نيويورك.
 
اليوم، تمثل رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة، خطراً شديداً ليس فقط على تحالفات الـ»ناتو» بل على تحالفات تاريخية تقليدية حول العالم، فطالما اشتكى ترامب من أن 28 دولة في الحلف لا تساهم بما يكفي من المال في سبيل الدفاع عن نفسها. في الحقيقة، القضية ليست في نسبة مساهمة الأعضاء في الميزانية الدفاعية للحلف، هل تبقى كما هي 2 في المئة من الناتج القومي لكل عضو، أو تتم زيادتها كما يدعو ترامب إلى 4 في المئة. المشكلة الحقيقية تكمن في أن المعطيات على الساحة الدولية حبلى بأجنة تفرض عند اكتمال نموها وولادتها تغييرات حتمية على موازين القوى الدولية وخريطتها، وتحالفات الـ»ناتو» في القلب من هذه التغييرات المقبلة. فمعطيات المشهد الدولي تبوح بالحقائق التالية: القوة الاقتصادية أصبحت هي المعيار الذي يحدد مكانة الدول وقدرها وتأثيرها. إن السلاح النووي، بعد كل مئات البلايين من الدولارات التي أهدرت في ترساناته طوال العقود الستة الماضية، لم يعد سوى الخيار الصفري الذي يدرك الجميع أن تفعيله سيضع نهاية لهذه الحقبة من التاريخ البشري. الصين، تمكنت خلال العقود الستة الماضية بعد استكمالها مقدرات القوة، تدق اليوم الطاولة بعنف. أوروبا تتعامل مع أولويات داخلية من أهمها الاختلال السكاني المطرد الذي سيغير وجه القارة خلال العقود الستة المقبلة. وأخيراً، فإن الإشاعات التي تحوم حول كيفية وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والتي تخضع لتحقيقات قضائية أميركية، قد تبوح بشيء مما يجري وراء الكواليس بين واشنطن وموسكو. فهل سيكون هذا الشيء هو التمهيد والترتيب لتحالف أميركي – روسي سري في مواجهة التنين الأصفر الذي عجز الجميع عن الوقوف أمام تقدمه الدولي والتهامه المنتظم لشرائح من الجغرافيا والسياسة والاقتصاد في شتى بقاع الأرض؟