كتب / د. علي السعدي …
واحدة من غرائب السياسة كمفردة بالأصل ، إنما جاءت عند العرب من البادية وعند بقية الشعوب من أماكن تربية الخيول حيث المراعي والحقول، فساس الخيل : عاملها بعناية وروّض مافيها من جموح ودربها على العدو والقفز عبر الموانع وماشابه، لتصل من ثم إلى الدفع بأفضل صفاتها وخصائصها إلى الظهور والتميز في سرعة العدو والقدرة على الإحتمال ومواجهة المخاطر والوفاء لفارسها والألفة مع سائسها أو مرّوضها .
تلك هي بداية المهنة التي ستتحول لاحقاً إلى أهم المعالم التي يقاس من خلالها مدى تطور الشعوب في أنظمتها وحضارتها وعلاقاتها الاجتماعية ومن ثم منسوب تطورها في جميع مجالات حياتها .
الغالبية الساحقة مما اكتشفه الإنسان ليروض به الحياة ، انما استمده من الحياة ذاتها ومن عالم المخلوقات على وجه أخصّ ، فمن البخار صنع المحركات ومن الخفاش اكتشف الرادار ومن ذبذبات الدرفيل اخترع السونار ومن الشجر والريح أبتكر الموسيقى – ومن الخيل عرف السياسة .
لكن الإنسان سرعان ما اكتشف كذلك إن ترويض البشر ليس كترويض الخيول ولا حتى التعامل مع بقية الكائنات بما فيها المفترس منها ،إن السياسة حالة متبدلة حيوية متسارعة قد تفاجئك بجديدها ومتغيرها كلّ حين ، في وقت تطالب فيه بوضع أسس وقواعد ونظم وقوانين ،تحدد مساراتها وتضع المؤشرات اللازمة لمعرفة معالمها ، والإستدلال من ثم على مسالكها .
على ذلك أظهرت الحياة البشرية إن السياسة عمل عظيم وممتع ،لكنه في غاية الصعوبة لايجيده إلا من امتلك المهارة في العمل والقدرة على الصبر في المصاعب ، والابتكار في الوسيلة، وكلها تشتبك في الوقت عينه ليظهر من خلالها معدن السياسي .
وهكذا ، كما بدأت بذور الحضارة تنبت في القرية ، فإن نموها وتطورها ومن ثم قطاف نتائجها ، إنما تطلب وجود المدينة التي أقامت علاقة تفاعلية بمستوى طردي مع التطور الحضاري ، فأصبح نمو المدينة سكانياً وعمرانياً ، مرتبطاً بمقدار توفر مكتسبات الحضارة وما تعكسه من أنماط سلوكية ومعيشية ومن ثم ما تتركه من أثر على العلاقات الإجتماعية والسياسية .
لقد مرت السياسة بأطوار متعددة ،كما أتخذت كذلك وجوهاً متعددة تفاوتت بين قبح شديد وجمال نضر ومايقع بينهما ،ففيما وضع بعض من القادة السياسيين ، ركائز متينة دعموها بأعمالهم ومنجزاتهم التي ساعدت شعوبهم في الوصول إلى مستويات عالية من التطور والرقي ، عمل آخرون على جعل السياسية وسيلة للهيمنة ومصادرة الحرية والقتل والدمار ، فقادوا شعوبهم نحو مستويات متدنية من العيش والشحّة في عوامل الإستقرار الأمني والحضاري.
الشعوب التي تطورت فيها المدنية ونمت تراكمياً ،خلقت كذلك تفاعلات بين واقعها المعيشي وطرائق حياتها اليومية من جهة ، وبين وسائل الحكم وممارسة السياسة من جهة أخرى، لتتشكل نتيجة لذلك ،تلك الحالة التي تعنيها المدينة باعتبارها رمزاً للتحضر ومقراً لممارسة السلطة عن طريق السياسة ، وفي هذا يقول أستاذ الجغرافيا ادوارد سوجا 😩 إن المدينة هي تفاعل بين حقائق مادية وبين مخيال رمزي ، وهي تنتج مكانتها عبر التلاقح بين علاقات القوة والسلطة ،وبين قيمتها الرمزية )) .
كان العراق قد شهد أولى الإنتقالات من القرى إلى المدنيات ، ومن ترويض وسوس الحيوان والطبيعة ، إلى سياسة الحكم وإدارة المجتمع ، وقد وضع في ذلك الأساسات الأولى والأكثر متانة لفن السياسة تطبيقاً، وإبداعاتها علماً ، وذلك من خلال ماسوف يمثل نمذجة لتجليات المدينة والمعنى الكامن في السياسة ( القانون) الذي تسري مفاعيله على الجميع ويحتكم إليه الجميع – كما جاء في قانون أور نمو وشريعة حمورابي- .
لكن تلك الأزمنة التي إزدهرت فيها السياسية عبر مايقرب من ثلاثين قرناً ، إندثرت تماماً بعد النكبة الحضارية الكبرى التي حلّت بالعراق ابتداءاً من غزو قورش لبابل وتدميرها من ثم بشكل كامل بما فيها محو آثارها، ليست العمرانية وحسب ، بل منجزاتها العلمية والفنية والأدبية والفكرية كذلك، إنه باختصار محو شامل .
قرون طويلة من السبات عاشتها السياسية العراقية – بل العقل العراقي برمته – قبل أن يصحو على سياسة مختلفة ،كانت قبيلة الدهاة (قريش ) قد جلبتها من البادية .
قريش القبيلة الأكثر قدرة على رسم الاستراتيجيات كما أظهر التاريخ ،فقد استولت على مكة سلماً (1) ثم على يثرب( المدينة ) سلماً كذلك بعد أن آمن أهلها بدين محمد أكثر مما آمنت قريش ، وفي وقت نظر أهل المدينة الى الدين الجديد نظرة إيمانية خالصة ، رأته قريش وسيلة حكمت بواسطتها شعوباً وأمماً شتى في مشارق الأرض ومغاربها .
كانت مكة بمثابة قرية كبيرة وسط صحراء (أمّ القرى) لكن أهلها تصرفوا سياسياً بعقل مدينة مترامية الأطراف ،لم تكن بيوتهم قصوراً ، لكنها ليست خيماً كذلك ، لقد رأوا القصور فتمنوها ، ورأوا الخيام فانكروها ، قسموّا بين عرب وإعراب ، بين حواضر نامية ، وصحارى آفلة ، فكانوا معلمين جدد، كثرت مقولاتهم التي ستذهب مثلاً في ممارسة السياسة : ( وليت عليكم وليس بأحسنكم ) – ( كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ) ( الناس صنفان – أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ) ( لو كان بيني وبين خصمي شعرة لما قطعتها – لاتضع سيفك حيث يكفي كلامك ) وهكذا وصلوا إلى مرحلة خاطبوا فيها السحابة (إمطري أينما شئت ، فريعك عائد لي ) كناية عن اتساع ما حكموه ووصلوا إليه .
تلك هي السياسة التي عرفت متى تخرج من قلق الخيمة ومؤقتها ، إلى ثبات المدنية وديمومتها ، فمن خصائص الخيمة أنها تُبنى بسهولة ويسر ، ومن ثم ليست بحاجة إلى جهود مضنية وتراكم في العمل وخرائط في الهندسة والتصميم، لكنها توحي كذلك بالمؤقت والمرُتحل ، كما انها عرضة لأن تقتلعها الرياح العاصفة أو تعبث بحبالها فلا تستطيع مواجهتها ، لذا يبقى ساكنو الخيمة في توتر دائم وعدم قدرة على الإستقرار ، فتتحكم ردود أفعالهم وما تفعله لحظاتهم ، على تأملاتهم وما قد يحمله قادمهم ، من هنا يمكن القول ان عقلية (الخيمة ) لاتستطيع خلق السياسة أو ابتكار فنونها والبراعة في ممارستها ، فتغرق في معالجة الطارىء والمؤقت ، على حساب الدائم والمتطور .
أما القصور ، فلها شأن آخر في موضوع السياسة ، فالقصر هنا لايعني ترف العيش ومظهر الغنى ممايوفره الحصول على المال وحسب ، بل هو المكان الذي يُبنى على أسس قوية ويرتفع تدريجياً بعد جهد وعناء ، لكنه يوفر أمناً واستقراراً ثابتين ، وقدرة على مواجهة الرياح و( اللصوص ) والطارىء من الأمور، كذلك يوفر الهدوء ومن ثم التأمل لصنع الفكرة ، والتفكّر للوصول الى تجاوز المشكلات ووضع الاستراتيجيات ،أي ما يتطلبه فن السياسة وإدارة شؤون الناس .
ذلك هو الفارق بين من سكن بجوار الخيمة ( أو مايقاربها ) لكنه فكّر بعقلية القصر وما يمثله ، وبين من سكن أفخم القصور وأكثرها بذخاً ، لكنه مازال يفكّر ويتصرف وفق عقلية الخيمة.
القول أعلاه ، يكاد ينطبق بحرفيته على ممارسي السياسة في العراق ، وعلى العقل السياسي العراقي بصفة عامة ، فمنذ الثلث الأول من القرن العشرين (تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة ) لم يخرج العقل السياسي العراقي من نمطه ( الخيموي) الإ في مرات نادرة سرعان ما أجضهت لتعود الى تصحّرها ،وقد يُسجل لنوري السعيد وعبد الكريم قاسم ،انهما من أبرز الشخصيات التي حاولت من قلب الصحراء ( الفكرية) للعودة من ثم الى خصوبة العراق ( القروية ) على الأقل ، أي في المرحلة الأولى لمصدر السياسة قبل الدخول الى المدنية – كما أسلفنا – لكن حتى تلك المحاولات لم تنجح ، فنوري السعيد حاول دفع العراق نحو مدينة تأخذ من تطور الغرب ( البريطاني خصوصاً ) فكراً تسكبه في قوالب (رملية) سرعان ما تسرّب منها ليتحول دماً ، بعد ان تغلبت الصحراء على تلك المحاولة وأجهضتها ، أما عبد الكريم قاسم ، فحاول العودة الى جذور القرية كمصدرللسياسة علّه يراكم من ثم مايحولها الى نهضة مدينة ، تحتمي بالقرية بمقدار ما تحميها ، وتتفاعل معها بمقدار ماتفعل كل منهما بالأخرى ، لذا تكدست القرية في أحزمة سكّانية كثيفة أحاطت بالمدينة صانعة السياسة على مايفترض ( بغداد) ثم إقتحمتها من دون أن يكتمل التفاعل بنتائجه وارهاصاته التي ظهر أبرزها في عدم قدرة السياسية على استيعاب القرية ، وعجز القرية عن رفد السياسة ، لذا وقع التناقض بين هذه وتلك ، لتتمكن من ثم عقلية الخيمة ( التي إحتفظت ببنيتها وقوتها- وشراستها كذلك) من الإجهاز على الإثنين معاً أي جدار السياسة
( القرية) وسقفها( المدينة).
لم تكتف ( الخيمة) في العراق بابتلاع المدينة وإلحاق الهزيمة بالقرية ،بل فرضت سيطرتها على الدين كذلك ، فجعلته مضارب طائفية متأهبة لتغزو أحدها الأخرى ، وعلى الرغم من سقوط الإستبداد الذي حكم طويلاً بإسم الخيمة وغلبة (القبيلة ) من دون أن يحاول التستّر بغير ذلك ،فإن التغيير الشكلي الذي فرضه تدخل خارجي (الأمريكي )لم يمسّ الجوهر في واقع الأمر ،فقد أُستبدلت الخيمة البدوية ، بالخيمة الدينية التي كانت أضعف من فرض سيطرتها الكاملة على المدينة ، كما فعلت سابقتها ،لكنها أقوى من أن تتمكن المدينة من إزاحتها ، لتقع من ثم السياسة في مطبّ جديد يزيد خطورة كلما زاد عجز السياسة عن مغادرته .
لقد أثارت عقلية (خيمة ) الدين سلسلة من المشكلات أخفقت في معالجتها ،رغم انها من تسبب بإثارة تلك المشكلات ،كان في مقدمها وجوهاً من الطائفية يمكن وصفها بالتوحش أو الانغلاق القاتل .
ال(خيمة ) هنا قد تتغطى بخطاب سياسي تتخذه مبرراً لما تفعله، إلا انها تدّق أوتادها على (تربة ) أكثر قدسية من السياسة وذات نتائج مضمونة لمصالح معتنقيها ، وإن كانت مدمرة لما عداهم ،إنها (تربة) موغلة في التشكل النفسي للإنسان العراقي حيث نبت على معتقداته ، التي تتغذى بنهم من تاريخ (قدسي) وحاضر متردٍ ، لكن الواقع ليس متردياً بفعل غياب السياسة (المدينة ) وحضور الخيمة (الدعاوى الطائفية) وحسب ، بل نتيجة لتآمر (خيام )طائفية أخرى على (الخيمة ) القائدة ، وبالتالي فهي ليست بحاجة الى الكثير لإستنهاض جمهورها، لا لتعيد بناء المدينة أو تجد للسياسة مخرجاً أو تشق لها طريقاً ، بل عبّرت عن نفسها بأشكال من العنف ومراتب من الإنشقاقات ،كانت محصّلاتها انها مزّقت السياسة وعبثت بالمجتمع على السواء، لتبرز عارية الإ من طائفيتها التي تصرّ على بناء خيمتها الخاصة وإن وحيدة وسط الصحراء .
ذلك ما يمكن استنتاجه في مجموعة من الظواهر ، فالسياسيون مازالوا يتصرفون وفق منطق ( القبيلة الغالبة) ويتعاملون مع العراق بعقلية المغير بهدف الحصول على الغنائم ، كذلك التصرف بردود الأفعال والحسابات الآنية المرتبكة وغير الواثقة ، والنفسيات المتوترة القلقة مما يحمله مستقبل لاتراه الا عاصفاً مغبرّاً ، لأن الخيمة لاتملك باباً تجعل ساكنها ينام مطمئناً ، لذا فهو يتوقع ان يُغزى في كل حين ، لكنه في العراق لن يستعد لينشأ مسكناً يقيه العواصف ، بل يطمح في سلب المدينة أكثر مافيها ليجعلها متشابهة مع خيمته كي لاتشعر أمامها بتخلفها وبدائيتها.