كتاب سجالي جديد يبحث في مصير النفس البشرية العاقلة مع تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي
مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة
لوحة للرسام أمادو سانوغول (صفحة الرسام – فيسبوك)
يواصل الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري المولود عام 1959 في كتابه الجديد الصادر في باريس عن دار “ألبان ميشال” “أنيما، حياة النفس وموتها من لاسكو حتى التحول الإنساني”، مراجعته النقدية لتاريخ الفكر الأوروبي الذي أقام عليه الغرب أفكاره عن المعرفة والحقيقة والمعنى، في زمنٍ اختُرِقت فيه الأفكار التي وَعَدَ بها عصرا الإنسانوية والأنوار. وتتواصل كما دوماً ردود الفعل والتعليقات على أطروحاته وتحليلاته التي ترافق إطلالاته وصدور كتبه العديدة. وعنوان الكتاب الذي يبدأ بعبارة لاتينية “أنيما” تعني النفس، يعبّر بوضوح عن موضوعه الأساسي: قراءة في تاريخ تحولات مفهوم النفس الذي وضعه الإنسان في تحديد ماهيته ومواجهته للموت.
في هذا الكتاب يعود الفيلسوف الفرنسي الطامح إلى إنزال الفلسفة من فضاء النخب الجامعيّة إلى الفضاء العمومي والباحث في فكر فلاسفة منسيين أو مهملين، إلى الأفكار الزئبقية التي نسجها الإنسان الأول الناظر إلى الحياة خارج الأرض عن ذاته، منذ أن اكتشف دوراتها وصولاً إلى إنسان القرن الواحد والعشرين، أو كما يسميه إنسان ما بعد-الإنسان، أي منذ عصور ما قبل التاريخ وحضارات سومر وآكاد وبابل ومصر الفرعونية القديمة، فالحضارتين اليونانية والرومانية، فظهور المسيحية وتعاليم كنيستها. فيه يتوقف أونفري عند مفهوم النفس التي عرّفها الفلاسفة قديماً بوصفها المبدأ أو القوة التي تمنح الإنسان الحركة الذاتية والحياة وتحدّد حَقِيقَته وَجَوْهَره الَّذِي هُوَ مَحل المعقولات، والتي تجعله يتميز بالإدراك العقلي والوعي أولاً، وبالإرادة والضمير ثانياً. أي أن ميشال أونفري يراجع مفهوم النفس ودلالاتها منذ أن قيل إنها مبدأ غير مادي خالد، ينفصل ساعة الموت عن الجسد، وصولاً إلى ما يسميه النفس الرقمية أو نفس إنسان ما بعد-الإنسان التي تعلن، مع تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، عن وصول الإنسان اللا-إنساني في المستقبل القريب.
كتاب “أنيما” لميشال اونفري (دار ألبان ميشال)
والكتاب عبارة عن تحقيق فلسفي حقيقي مبني على شكل رواية بوليسية. نفهم عند قراءته أنه المجلد الأول من سلسلة مخصّصة للإنسان ولما بعد-الإنسان، وأن المجلد الثاني الذي يليه سيكون بعنوان “البربرية”.
الإنسان والثورة الرقمية
في “أنيما” يبدأ أونفري بدرس طبيعة هذا المستقبل الإنساني الناشئ الذي لاحت تباشيره مع تقدم الثورة الرقمية، التي ستؤدي بحسبه إلى إعادة النظر بمفاهيم إنسانية كثيرة، طارحاً من خلاله إشكاليات مرتبطة بتفوق الآلة على الإنسان وعلى ذكائه الذي أطلق عليه فلاسفة اليونان قديماً اسم النفس العقلية، متوقفاً أمام المخاطر الناجمة عن تداعيات هذا التحول على الحياة البشرية.
يمكن تلخيص أطروحة الكتاب الأساسية كما يأتي: إن مفهوم النفس هو مفهوم مركب. يكفي أن نستعيد تحديداته عبر العصور لنتبين كيف تغيّر أو تطور إدراكه لدى المفكرين القدامى منذ مرحلة ما قبل التاريخ مروراً بالسومريين والبابليين والمصريين واليونانيين والرومان ثُم أوروبا المسيحية، وصولاً إلى أيامنا هذه مع إيلون ماسك والمرحلة التي يطلق عليها أونفري اسم مرحلة ما بعد-الإنسانية أو التحول الإنساني.
الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري (صفحة الكاتب – فيسبوك)
والنفس في عرف أونفري موجودة بالطبع. لكن مفهومها ليس هو نفسه عند أبيقور أو ديكارت أو القديس أغوسطينوس أو شوبنهاور أو نيتشه أو حتى عند إيلون ماسك. فهذا الأخير، بحسب الفيلسوف، يعتقد أن النفس إنما هي مجموع البيانات والخوارزميات التي نتركها وراءنا والتي يمكننا رقمنتها، مما يُؤهل الآلة والمنظومات الإلكترونية التي تجتاح حياتنا في ما بعد، للقيام بمهمات تتطلب فهماً وأداءً بشريين. هذا يعني أن إيلون ماسك يقول بنفس-آلة يمكن بواسطتها فعل الكثير من الأشياء.
هذا التحديد الجديد لـ”الأنيما” يعلن بحسب أونفري أن الإنسان يموت حقاً وإن بداية حقبة ما بعد-الإنسانية أو الإنسان-الآلة إنما هي بداية حقبة “الاستبدال الحقيقي العظيم”. هذا هو بالضبط برأيه الحدث الوحيد المثير للضيق والخوف، والذي بدأت معالم ما بعد-إنسانيته تلوح في الأفق، ولو ادعى منظروه أن الهدف الأساس منه إنما هو رفع الكفاءة والمهارة والإنتاجية في سبيل راحة الإنسان.
إنسان بلا إسم
باختصار يرى ميشال أونفري أن الإنسان العاقل في طور تسليم مقاليد حياته إلى إنسان لا اسم له بعد، هو بالتأكيد إنسان سيبراني، تبشّرُ به التطورات العلمية الإلكترونية المتسارعة. وما كتابه هذا إلا رواية قصة هذا الكائن منذ أن أدرك ذاته كائناً واعياً، وأدرك العالم من حوله. فبدأ بالتساؤل عن الوجود والنفس والحياة والموت والخير والشر، وبدأ بإعطاء أجوبة اختلف مضمونها على اختلاف العصور.
يتوقف الكتاب عند الأجوبة التي ظهرت على وجه الخصوص في ملاحم بلاد ما بين النهرين وفي برديات مصر الذي كان إنسانها أول من أدرك خلود النفس، ثم في ميثولوجيات وكتابات الشعراء والفلاسفة في بلاد اليونان الأوائل منذ القرن التاسع قبل الميلاد، والتي يستعرض الكتاب تعريفاتها للنفس، وكذلك تعريفات المفكرين الرومان، التي سرعان ما أصبحت مرتبطة بتعاليم الكنيسة، وعرفت في كل مرحلة من مراحل التاريخ لحظة حاسمة أو انعطافة في فهم هذا المبدأ الذي جعل منه البعض جوهر الإنسان بامتياز.
يقول لنا ميشال أونفري إذاً إن مفهوم النفس في تطور وتغيّرٍ مستمر. دليله على ذلك ما وصل إليه هذا المفهوم في أيامنا هذه. لذا كان متن كتابه عبارة عن عرض، كما سبق وأشرت، لأهم التيارات الفلسفية والأديان التي تناولت موضوع النفس الإنسانية، كسقراط وأفلاطون وأرسطو، وتعاليم يسوع المسيح ورسله والكنيسة المسيحية في بداياتها منذ أن أصبحت دين دولة معترفاً به رسمياً مع قسطنطين الكبير عام 313. وقد لاحظ أونفري أن كلمة “نفس” لم تستخدم أبداً في الأناجيل، تماماً ككلمتي “الجنة” و”الجحيم”. وها هو ينتقل للحديث عن هذا المفهوم عند الفيلسوف مونتاني الذي دافع عن اتحاد النفس بالجسد، وعند ديكارت و”الغدة الصنوبرية”، المكان المزعوم لاتصال النفس أو الجوهر المفكر بالجسد، الذي هو امتدادٌ لها، وتعليمه أن النفس واحدة لا تتجزأ، وبإمكان وجودها منفصلة عن الجسد. ثم عند الفيلسوف وعالم الرياضيات واللاهوتي بيار غاسندي، الدارس لفكر أبيقور، ثم عند فولتير وديدرو وروسو، والفيلسوف الماديّ جوليان أوفري لاميتري، والأباتي هنري غريغوار، وروبسبير المعروف بقوله إن “الشعب الفرنسي يدرك وجود الكائن الأسمى وخلود النفس”، ثم عند فرويد ودولوز والتفكيكيين الفرنسيين، وعند فوكو…
خلاصة الكتاب أن “المفهوم الرائج للنفس الإنسانية يعيش مراحله النهائية”، وأن التحول الإنساني ينتظر الوقت المناسب ليفرض تعريفه الجديد لماهية النفس المرقمنة. فالمستقبل على قول أونفري ينتمي إلى مفهوم مختلف للإنسان يترافق مع انحدار أيديولوجية أوروبا المنهكة وأفول ما يسميه “الحضارة اليهودية-المسيحية” التي تناولها بالدرس والتحليل في كتابه “الانحطاط”. وقد اعتبر فيه أن الحضارة الغربية تعيش حالاً من الهرم، لا بل من التهديم للأرضية التي تقف عليها ثقافتها، وأن وضع إسمنت ما بعد-الحداثة الأميركية عليها أو حداثة ما بعد-الإنسانية الكونية، هي التي تشكل، على المدى الطويل، خطورة أكبر بكثير مما تشهد أوروبا من تغيّر في ثقافة سكانها.
في الختام كان لا بدّ من فيلسوف مادي، وَضَعَ ما يزيد على الخمسين كتاباً، أن يتناول بالدهشة الفلسفية التي يستحقها موضوع النفس البشرية، وأن يقاربها على أنها تركيب فكري بشري يتفكك، أي بوصفها فكرة نحتها الإنسان عن نفسه في مواجهة الموت، وليس بوصفها هبة خالدة، لا معنى لها إلا من منظور إيماني، مُحرِّكاً، كما في كل كتبه وعلى الطريقة النيتشوية، أسس الحضارة الأوروبية.