الفِلْح… مشكلة مصر المسكوت عنها

1

الرأي

خالد البري

خالد البريإعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي – عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».

صحيح، وليس دقيقاً، أن نَصِف ما حدث في القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد والجزائر بأنه ترييف للحضر. صحيح بوجه عام، لكنه كسول كتشخيص طبي من غوغل. اخترت هذه الحواضر بالذات لأنني زرتها، ولاحظت الفارق الذي لا يعكسه لفظ «الترييف» الجامع. الترييف في بيروت مرتبط ببعد ميليشياوي مسلح، سابق حتى للراية الطائفية الصريحة. ترييف شبعان، حسب شعاراته المعلنة، بثقافة الحرمان. وهو مختلف عن الترييف الاشتراكي المُهندَس في «مدينة الثورة» في بغداد. هذا ترييف مطبوخ في وعاء ضغط، ومجهَّز على مهلٍ للانفجار، وهو ما حدث، متواكباً مع تغيير اسم المنطقة إلى مدينة الصدر. تبدو دمشق شبيهة بوضع بغداد. لكن لا، هي صورة معاكسة. الطبيعة الأقلوية لترييف دمشق اقتضت أن ينتزع الجيش لنفسه التسلح الضامن لتفوق الطائفة، فنزع عنها ثوريتها. يختلف هذا كثيرا عن الحالة المصرية. التي سأذهب إليها بعد قليل.

فتح مثقفون لبنانيون، مثل وضاح شرارة في كتاب الأمة القلقة، عيني على النفسية الاجتماعية للتغيير في بيروت. ولفت أحمد بيضون انتباهي إلى بعد تاريخي من خلال «الصراع على تاريخ لبنان». على الأقل بالنسبة لشخص أجنبي عن البلد. وفي العراق بذل حنا بطاطو جهدا كبيرا في تحليله لـ«الحزب الشيوعي العراقي»، ورغم خصوصية اسم الكتاب فقد أضاء لغريب على الطبيعة الطائفية للأحزاب الأخرى كالبعث والقوميين، بحيث يساعدك في فهم مجتمع العراق بشكل أفضل.

لكن مثقفي مصر استحيوا -وهذا تعبير مهذب- من منحِ ما ألم بالحضر توصيفا يعكس خصوصيته. لم ينشأ هذا من كسل، بل من تماهٍ وتداخل وتشابك. مما جعل حال المثقفين في تعاملهم مع الموضوع مثل طبيب نفسي أتينا به لتشخيص حالة فاكتشفنا أنه هو من يحتاج إلى تشخيص. الغريب أن اللسان اليومي في مصر طرح بالفعل لفظا بديلا هو «الفِلح»، وهو من وجهة نظري يؤدي الغرض، ويشير إلى خصوصية الحالة المصرية. فلماذا عجز مثقفو مصر المعاصرون عن تقديم تشخيص وافٍ مُرضٍ؟

أولا، لأن المهيمنين على المؤسسة الثقافية الرسمية كانوا جزءا أصيلا من المشكلة. الفِلح المصري، كغيره من الترييف في المنطقة، تواكب مع تغييرات سياسية سيطرت على الجو العام، وعلى الثقافة، واحتكرت مهنة النشر والإعلام. لكنه يختلف عن غيره في غياب أسباب نزاع طبيعي. بمعنى أنه مهما سيطر حزب على العراق ستظل الطبيعة الطائفية لذلك الحزب محفزا لآخرين على تحدي روايته. وهكذا الحال في سوريا ولبنان. في الجزائر أيضا منحت فرنسا لمثقفين جزائريين منفذا ومتنفسا لكي يقولوا كلاما مغايرا.

أما في مصر، فالطبيعة الاجتماعية مكنت الجمهورية من احتكار الرواية الاجتماعية احتكارا تاما. الكتاب، ومدراء صنعة الثقافة والإعلام، كلهم تنويعات من اليسار. قد يزايدون على بعضهم في شؤون أخرى، لكنهم يتفقون على قمع الرأي المخالف للخطاب المهيمن، وعلى دعم «الفِلح». بل أكثر من ذلك. حتى الصوت الإسلامجي المقابل، وإن اختلف معهم في توجهات كثيرة، فسوف يتفق معهم على تغذية الفلح، من رافده الآخر. وهذا ينقلنا إلى البند ثانيا.

الفلح المصري متسلح ببعد ديني مهيمن. يمنح أخلاقه الريفية تساميا غير مُستَحَق، ومتغطرس، لا يكلف نفسه عناء البحث عن منطق أو تبرير أو إقناع، فيُمَكِّن بواب عمارة أو ساكنا من السيطرة الرقابية الريفية على من فيها. هذا يعني أنه يحتاج في مواجهته إلى مزيد من الإصرار على فكرة المنطق والقانون. لكن الواقع أن القوانين التحديثية تلقت طعنات من رافدي الفلح كليهما. الجماعات الدينية اعتبرتها قوانين وضعية لا سلطة لها، والدعاية اليسارية دعمت سلوك منتهكيها بخطاب طبقي، وحقوقي، سمته دفاعا عن الطبقات «المهمشة». حتى ابتلع الهامشُ المتنَ كُلَّاً وتفصيلاً. إن اقتطع دُكَّانٌ رصيفا للمشاة حماه الرافد الديني انطلاقا من فكرة «قطع الرزق»، وحماه الرافد اليساري انطلاقاً من فكرة سعي البسطاء إلى التكسب. وهكذا تشوهت أسطح البنايات وسفوحها والحياة فيها.

ما من نموذج يقدم دليلا على ائتلاف رافدي الفلح معا أكثر من الشاعر اليساري أحمد فؤاد نجم، الذي حولته الدائرة الثقافية المهيمنة إلى رمز مقدس، تترنم أغانيه وتسترضيه وتعاقب منتقديه. لاحظوا تشابك الدين الفلاحي والثورية الاشتراكية. هذا مطلع قصيدته كلب الست، والمقصود هنا السيدة أم كلثوم:

«في الزمالك من سنين، وفي حما النيل القديم، قصر من عصر اليمين، ملك واحدة من الحريم، صيتها أكتر من الأدان يسمعوه المسلمين».

وهذا مطلع قصيدة شيد قصورك: «شيد قصورك ع المزارع من كدنا وعمل إيدينا، والخمارات جنب المصانع، والسجن مطرح الجنينه».

في مطلع قصيدة إيران، يذم الفنانين بلفظ لن نستطيع طباعته كاملا، «والفنانين المومـ… والفنانات». في المقابل، يمدح الإرهابي قاتل السادات بقوله: «أصل الحكاية ولد، فارس ولا زيه، خد من بلال ندهته ومن النبي ضيه، ومن الحسين وقفته في محنته وزيه».

ثالثا، المثقف المصري اليساري، استسهل تفسير المشكلة بأنها مستوردة. يقصد أن الهجرات المصرية إلى دول جوار أتت بنموذج دين مختلف. مغفلا أن الدين السلطوي في مصر نشأ تنظيميا في 1928، وتحالف مع أحزاب اشتراكية منذ الثلاثينات، واغتال رئيس وزراء مصر في الأربعينات، وتشارك مع الضباط الأحرار الوصول إلى رأس السلطة في بداية الخمسينات، ثم حصل الشقاق بينهما وحاول اغتيال الرئيس في 1953، كل هذا قبل أن تبدأ الهجرات المصرية. ناهيك أن هذا التفسير لا ينطبق على حواضر أخرى كالجزائر مثلا. هيمنة الترييف المصري المتسلح بالدين سببها أن العقلية الاشتراكية في سلطة دولة يوليو (تموز) وثقافتها فتحت له أبواب الحضر، فأمسك بمفاصله، بهجين آيديولوجي واجتماعي وسلوكي له خصوصية تستحق اسما مميزا. الفِلْح صار ذهنية عابرة للمؤسسات، والتوجهات السياسية، والطبقات الاجتماعية…

التعليقات معطلة.