محمد عبد الصادق
الناس في مصر الآن نادرا ما تتحدث في السياسة, ويطغى الحديث عن الاقتصاد والغلاء والأسعار المتزايدة على أحاديث مرتادي المقاهي, الذين يجدون سلوتهم في مشاهدة مباريات الكرة ومتابعة الدوريات الأوروبية وخصوصا التي يظهر فيها نجم الكرة محمد صلاح الذي أصبح اللقطة المضيئة التي يلتف حولها المصريون الذين كفر معظمهم بالسياسة.
ظرف طارئ دفعني للتواجد في القاهرة هذه الأيام الشتوية الباردة, بعد فراق طويل امتد لعقود قضيت فيها الشتاء في العامرة مسقط التي تشهد أجواء دافئة هذه الأيام, حيث لا تنخفض درجات الحرارة العظمى عن منتصف العشرينات, بينما أعلن قائد الطائرة عن 12 درجة تنتظرنا خارج مطار القاهرة صباحا, وكانت في الكويت التي مررت بها “ترانزيت” 17 درجة مئوية.
غادرت مبنى المطار, ووقفت أنتظر السيارة التي تقلني للمنزل, وإذا بلفحة برد شديدة تقتحمني وتصل إلى عظامي رغم الملابس الشتوية التي ابتعتها من مسقط على عجل, المشهد حولي لا يتسق مع ما أشعر به من برد, فضجيج المركبات اختلط مع صياح السائقين المتنازعين على أولوية التحميل ليتحول البرد الذي أشعر به إلى أجواء مشحونة ساخنة, ربما الصدمة سببها ابتعادي الطويل عن الأجواء الباردة وتعودي على شمس مسقط الدافئة شتاء، والسكون الذي يخيم على شوارعها والهدوء الذي يلف ميادينها في مثل هذا الوقت من الصباح الباكر, ربما تقدم بي العمر ولم أعد أحتمل قسوة البرد.
الحركة شديدة وأصوات “الأبواق” تملأ المكان, ونداءات السائقين تطاردك للركوب معهم, عرفت أن نصف السيارات المتنازعة خاصة “ملاكي”, وسط اعتراض وامتعاض سائقي الأجرة الذين يشكون قلة الرزق, وكثرة الدخلاء على المهنة، سواء التابعين للشركات العالمية التي تستخدم التطبيقات الإلكترونية على الإنترنت, أو أصحاب السيارات الخاصة الذين يرتادون المطار بحثا عن زبون يزيدون من خلاله دخلهم, يجري هذا الصراع الخفي وسط تواجد كثيف من رجال الشرطة الذين لا يتدخلون, طالما أن الأمور لم تتجاوز الاشتباكات اللفظية.
خرجت من المطار أتأمل شوارع القاهرة التي تركتها من شهور قليلة صيفية, كانت حركة المرور هادئة، فالسبت إجازة لمعظم المصالح الحكومية والخاصة والمدارس والجامعات والوقت ما زال مبكرا, الشمس تشرق على استحياء ولكنني أشعر بالدفء كلما بعدنا عن منطقة المطار المرتفعة واتجهنا جنوبا في اتجاه محافظة الجيزة؛ حيث مسكني, بعض المحال ما زالت تفتح أبوابها, وما زالت عادة رش المياه أمام المقاهي والحوانيت مستمرة في شوارع القاهرة, رغم مناشدات وزارة الري وتحذيرها من دخول مصر عصر الفقر المائي.
كان نزولي له صلة بالمرض والعلاج وهو إشكالية كبيرة في مصر؛ فرغم جهود الحكومة المصرية في مجال الرعاية الصحية, إلا أن زيادة أعداد المرضى وارتفاع تكاليف العلاج, يجعل تجربة المريض الفقير أو رقيق الحال للحصول على العلاج المجاني نوعا من المعاناة التي تفاقم مرضه.
واشتكت وزيرة الصحة المصرية مؤخرا من هجرة الأطباء للخارج، وطلبت من البرلمان استثناء الأطباء من قرار رئيس الوزراء بفتح باب الإجازات بدون مرتب أمام العاملين بالجهاز الإداري للدولة على مصراعيه, لاحتياج مصر للمبالغ التي يحولها العاملون في الخارج والتي تصل إلى 27 مليار دولار سنويا، وتعتمد عليها الحكومة إلى درجة بعيدة في تكوين الاحتياطي النقدي.
أوضحت الوزيرة أن 70% من مخرجات كليات الطب الذين يصل عددهم 103 آلاف خريج سنويا تركوا العمل في وزارة الصحة وحصلوا على إجازة بدون مرتب وسافروا للخارج بحثا عن راتب أعلى, كما أن هناك نقصا في التمريض والطواقم الطبية المساعدة, الأمر الذي أدى لغلق كثير من المستشفيات والمراكز الصحية لعدم توافر الكوادر البشرية اللازمة لتشغيلها, مما يضع عبئا على المستشفيات المرجعية ومراكز العلاج الجامعية التي يتوافد عليها المرضى من كافة محافظات مصر.
بينما العلاج الخاص لا يقدر على تكاليفه سوى الأغنياء والطبقة فوق متوسطة, ويلجأون إليه مضطرين لاتقاء الازدحام ولائحة الانتظار الطويلة في المستشفيات الحكومية, وأملا في الحصول على خدمة صحية أرقى؛ حيث تتوافر الأجهزة الحديثة والكوادر الطبية الماهرة التي يجذبها العمل في القطاع الخاص الذي يؤمن لهم راتبا مجزيا وبيئة عمل ملائمة.
الناس في مصر الآن نادرا ما تتحدث في السياسة, ويطغى الحديث عن الاقتصاد والغلاء والأسعار المتزايدة على أحاديث مرتادي المقاهي, الذين يجدون سلوتهم في مشاهدة مباريات الكرة ومتابعة الدوريات الأوروبية وخصوصا التي يظهر فيها نجم الكرة محمد صلاح الذي أصبح اللقطة المضيئة التي يلتف حولها المصريون الذين كفر معظمهم بالسياسة.
رغم البرد والأزمة الاقتصادية التي يشكو منها معظم المصريين, احتفظت القاهرة بشهرتها؛ بأنها المدينة التي لا تنام, الأسواق تضج بالحركة حتى الصباح, في القاهرة تستطيع الحصول على أي نوع من الطعام في أي وقت؛ سواء توجهت للمطعم أو يصل إليك “ديليفري” في مسكنك. ولا غرابة أن تجد المصريين يتناولون وجبات دسمة لا يقدر على هضمها الكهول أمثالي داخل هذه المطاعم مثل “الكوارع والفتة ولحمة الراس” الساعة الثالثة فجرا.
وعندما يختفي ضجيج الساهرين, تبدأ الشرائح الأخرى من المصريين تسلم راية الاستيقاظ والسعي وممارسة أنشطة أخرى في المدينة التي باتت لا تعرف السكون أو الهدوء، وباتت تئن من كثرة السكان الذين تجاوز عددهم في القاهرة الكبرى وحدها 30 مليونا.