بقلم : أسامة العرب
كثرٌ من الناشطين على الصعيد الدولي عمدوا في السنوات الأخيرة إلى ترميز سياسات «إسرائيل» ضدّ الفلسطينيين، بسياسات نظام الفصل العنصري الأبارتايد ضدّ السود في جنوب أفريقيا، وقد ساهم هذا التشبيه أو الترميز في تحقيق مكاسب عدة لصالح الفلسطينيين. حيث تستلهم هذه المقاربة الكثير من العبر المهمة من نضال السود ضدّ العنصرية، والذي قاد بعد عقود من الكفاح إلى حشد تضامن دولي عريض دفع باتجاه حصار نظام الأبارتايد وصولاً إلى تفكيكه.
أما اليوم، فالجريمة الإرهابية «الإسرائيلية» الجديدة المنوي ارتكابها بحق المقدسيين أبعد من الأبارتايد بكثير، إنها جريمة تطهير عرقي بامتياز وترانسفير كبرى يكون الباعث الاستراتيجي منها ارتكاب جرائم عديدة لطرد مئات الآلاف من سكان القدس الأصليين، وفي المقابل نقل مئات آلاف «الإسرائيليين» إليها لإقامة ما يُسمّى بعاصمة «اسرائيل» الكبرى والتي يطلقون عليها تسمية أورشاليم. فيما القدس ميزان المقاومة وميزان عزة هذه الأمة، ولا حلّ لاستعادة فلسطين والقدس إلا بالمقاومة والانتفاضة، أما الاكتفاء ببيانات الشجب والاستنكار والرفض والتحذير من خطورة الموقف من دون اتخاذ أي خطوة عملية جادّة، فتؤكد مجدداً حالة التخاذل والعجز العربي، وعدم الاستعداد للدفاع عن حقوق ومصالح هذه الأمّة ومقدساتها.
ومن هذا المنطلق، اعتبر الرئيس بري أنّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس له اتصال بما يُسمّى صفقة القرن، التي كانت «إسرائيل» ستُمنح بموجبها القدس عاصمة لها مقابل الفرض على الفلسطينيين دولة تشمل قطاع غزة و40 في المئة من الضفة الغربية وقرية أبو ديس عاصمة لها، لكن تحت وصاية أمنية «إسرائيلية» إلى جانب تحويل غزة سوقاً يربط بين إسرائيل ودول الخليج. وعندما فشل المشروع الصهيوني الأميركي وسقطت صفقة القرن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني. كما شدّد الرئيس بري بأن مَنْ يتجرأ على القدس يتجرّأ على المقدسات، وأن الحلّ الحقيقي هو في المقاومة المسلّحة، مستشهداً بالكلام الذي وجّهه الإمام المغيّب موسى الصدر للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عشيّة اتفاق كامب دايفيد، وقوله إن شرف القدس يأبى أن يتحرّر إلا على أيدي المؤمنين. وأضاف بأنّ صوت وزير الخارجية جبران باسيل في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب قد فضح العجز العربي الرسمي وأثبت أنّ لبنان هو الأشدّ التصاقاً بالقدس وفلسطين والأكثر استعداداً للعطاء من أجلها، قائلاً هذا الموقف الجريء يُسجَّل لوزير مسيحي وإنْ كنتُ لا أحبّذ هذه التصنيفات.
والحقيقة أنّ قرار ترامب عرّى كل المهرولين المطبِّعين الذين طالما بشّرونا بـ«صفقة القرن» قبل أن يوجّه لهم ترامب صفعة مدوّية ويُجبرهم على التواري خجلاً من سوء ما بشِّروا به. كما أنّ الخلافات الشديدة وتآمر بعض الدول العربية هي التي جرّأت الأميركي والكيان الصهيوني، لأن يرتكبا جريمة تهويد القدس مدينة الأنبياء. والسؤال الذي يطرح نفسه ألا تستحق القدس ومقدساتها أن يتّخذ الحكام العرب على الأقل خطوات ذات مغزى كالتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية إذا لم تتراجع واشنطن عن هذا الإعلان؟ وألا تستحق القدس ممارسة ضغط اقتصادي على الولايات المتحدة الأميركية كي تُحترم الشرعية الدولية، في الوقت الذي تسارع فيه أميركا وبعض الدول الغربية إلى فرض سلسلة من العقوبات على أية دولة لأسباب سياسية، وخاصة على دول عربية وإسلامية؟ حيث يقول الرئيس بري لو كان الأميركيون يعلمون أنّ لدى العرب الجرأةَ على قطعِ العلاقات الديبلوماسية مع الولايات المتحدة، لَما كانوا اتّخَذوا مثلَ هذا القرار. معتبراً أنّ ما أغرى الأميركيين ودفعَهم إلى مِثل هذا القرار هو أنّ الوادي واطي، فعندما يكون الوادي منخفضاً جداً يكون الجبَل مرتفعاً جداً.
من ناحية أخرى، وللأسف الشديد، فإن هذا العجز وهذا التخاذل، وهذا التسامح مع الولايات المتحدة الأميركية رغم كل ما فعلته وما تزال ضد الأمة يتواصل منذ عقود إلى أن وصلنا إلى ما نحن فيه من هوان، وهو العجز نفسه الذي شجّع ويشجّع أميركا و«إسرائيل» على المضيّ قدماً في معاداة الشعب الفلسطيني ومحاولة تصفية قضيته وفي تجاوز الخطوط الحمراء كقضية القدس. إن حجم جرح فلسطين لم يوقظ الأمة منذ ذلك الاحتلال الى الآن، ولم يحظ هذا الجرح بالاهتمام بالقدر المطلوب. والقضية الفلسطينية تحظى بتجاهل كبير وتخاذل معتاد من العديد من الدول العربية، في اتجاه هيمنة المصالح غير المفهومة والاستراتيجيات الخاصة، لتبقى القدس جزيرة مُنعزلة عن الإطار العربي. أما بالنسبة للمؤتمر الإسلامي الذي انعقد في اسطنبول فكان من بدايته يحمل بوادر فشله، وخاصة بسبب مستوى التمثيل الضعيف للدول العربية فيه، والذي اقتصر بعضها على إيفاد موظفين من الحدّ الأدنى لحضوره نيابة عن دولهم. فضلاً عن أن المقرّرات اقتصرت على خطابات التنديد والشجب واعتبار الولايات المتحدة وسيطاً غير محايد في مباحثات السلام وإعلان القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، ولم يتحوّل لخطوات عملية رادعة للاحتلال وللولايات المتحدة الأميركية.
والمفارقة هنا أن الجميع يتساءل ما هو هذا الاكتشاف العظيم الذي خرجت به القمة الإسلامية، وهل أدركت القمة اليوم بعد سبعين عاماً من الاحتلال «الإسرائيلي» أن الإدارة الأميركية ليست وسيطاً نزيهاً في عملية السلام؟ ثمّ كيف سيتمّ التصدي لمحاولات تغير الوضع التاريخي والقانوني للقدس، وكيف سيتمّ وقف الإجراءات الأحادية التي تمسّ بالقدس خارج نطاق حل شامل يلبي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وعاصمته القدس؟ أضعف الإيمان قطع العلاقات مع الكيان الصهيوني ووقف التنسيق الأمني معه. وأين هي الإشارة الى الخطوات المزمع القيام بها لمواجهة تداعيات القرار الاميركي، كما كان بعض المتفائلين والحالمين يتوقعون، أو كما كان البعض يهدّد. أما ما تضمنته البيانات والقرارات من رفض قرار ترامب، واعتباره غير شرعي وغير قانوني وغير مسؤول واعتباره لاغياً، فهو لن يعدو أن يكون سوى حبر على ورق، إن لم نكن نملك إمكانية تنفيذه والضغط على ترامب وإدارته للتراجع عنه.
إن القمّة الإسلامية في اسطنبول إن خرجت بنتائج، فهي أنها أسقطت الأقنعة، وكل أوراق التّوت، وأظهرت الوجوه والمَواقِف على حَقيقَتِها، وهذا في حَدّ ذاتِه إنجاز كبير. ولهذا نقول، آن الأوان كي تستفيق أغلبية الدول العربية والإسلامية من سباتها العقيم، وأن تأخذ العبرة من الطفل الفلسطيني فوزي جنيد، ابن الخمسة عشر عاماً، والذي تطلّب ثلاثة وعشرين جندياً صهيونياً لاعتقاله، وأبى المنتفض البطل الذي لم يكن بيده سوى الحجر، إلا أن يُعتقل وهو مرفوع الرأس شامخ الأنف، وحتى العصبة التي وضعت على عينيه لم تستطع أن تؤثر على عنفوانه ولا على كبريائه ولا أن تمنعه من رؤية طريق تحرير فلسطين والقدس والمقدسات.
وأخيراً، في زمن ما يزال يوجد فيه قادة مقاومون كالرئيس نبيه بري، فلا خوف على القضية الفلسطينية والقدس أبداً، وإن لم يتراجع دونالد ترامب عن قراره بشأن القدس، فلن تهدأ الانتفاضات الشعبية في أي دولة عربية أو إسلامية، وستكون «إسرائيل» الخاسر الأكبر، وستجد نفسها بعزلة دولية لا مثيل لها بسبب رفضها الامتثال للقرارات الأممية، والتي آخرها كان القرار 2334 الصادر عن مجلس الأمن في 23 كانون الأول 2016 والذي يعتبر القدس مدينة محتلة.