«القدس عربيّة رغم أنف إسرائيل».. كيف يقاوم المقدسيون التهويد الممنهج؟

19

ميرفت عوف

خمسون عامًا مرت على احتلال إسرائيل للقدس الشرقية، قامت حكوماتها المتعاقبة على «أسرلة» وتهويد كل شيء في المدينة، الأرض والبيت والتراث والمقدسات وغيرها. على الجبهة الأخرى تُرك المقدسيون وحدهم يقاومون محاولات الاحتلال الحثيثة للتهويد، فبعد عزل المدينة عبر الاتفاقات الدولية عن محيطها الفلسطيني والعربي، وجد المقدسيون أنفسهم يقاومون انتزاع هويتهم وتراثهم وقضيتهم، وفيما يظهر يومًا بعد يوم قرار إسرائيل بفرض التهويد، يتزامن معه شكل جديد من أشكال المقاومة لهذا التهويد.

المؤسسات الثقافية في القدس.. «لن تمرروا التهويد»
«كان السبعون لوحة للمدينة من داخل الأسوار وخارجها بمثابة محاكاة فنية وتاريخية للقدس قبل أن تخضع للاحتلال الإسرائيلي بإعادة رسمها كما كانت قبل 100 عام في العصر العثماني، ثم البريطاني، ثم الأردني»، هكذا أوجز الفنان الفلسطيني «شهاب القواسمي» حكاية 70 لوحة رسمها، ثم جمعها في كتاب «كان يا ما كان.. القدس قبل مائة عام» بغية تخليد تاريخ مدينة القدس المحتلة قبل الاحتلال الإسرائيلي.

سعى القواسمي إلى تسجيل ماضي القدس، ورسم أزقتها وشوارعها وأحيائها ومقدساتها، إلى جانب القباب والمصاطب والقناطر بالقلم الرصاص، يقول القواسمي: «شكل تاريخ القدس، وجمالها العمراني، وكنوزها الدفينة، بجانب مقدساتها الإسلامية والمسيحية، دافعًا كبيرًا لرسم تاريخها بالأبيض والأسود، مع إعطاء الرسومات لمسة وبعدًا تراثيًا سبقت الاحتلال وبدء عمليات الاستيطان والتهويد».

تحرك القواسمي كفنان مقدسي وحده، وكذلك تحركت سيدة مقدسية حتى قبل احتلال القدس، إذ يُروى أنه في العام 1962، أقدمت هند الحسيني على تجميع مقتنيات أثرية من المقدسيين بهدف إنشاء متحف فلسطيني يحتفظ بالتراث المهجّر بعد النكبة عام 1948، استجيب لها حتى أصبح في العام 1978 لديها مقتنيات تمكنها من افتتاح متحف رسمي، فكان المكان بيت عائلتها الكبير، لقد أوجد في هذا العام متحفًا تاريخيًا يجاور دار رعاية للأطفال الناجين من مجزرة دير ياسين الذين آوتهم هند في منزلها، يعرف باسم «متحف التراث الفلسطيني»، وهو ثاني أكبر متحف بالقدس بعد المتحف الإسلامي الموجود في المسجد الأقصى.

يحتوى المتحف على 3 آلاف قطعة أثرية، ما بين أدوات الطعام، والحصيد التراثية، والحُلي التي صنعت يدويًا، والأزياء الفلسطينية القديمة، ومقتنيات شهداء المجازر في المتحف، وكذلك أدوات الطباعة والأختام والأوراق، يقول مدير المتحف خالد الخطيب: «إن الهدف من وجود هذا المتحف هو الحفاظ على الموروث الفلسطيني، من مقتنيات حياتية متنوعة، في ظل التضييقات التي تُفرض على أهالي القدس»، ويضيف: «الاحتلال يسيطر على كل ما يمس التاريخ الفلسطيني، والمقدسي تحديدًا، ويعمل على تهويده ونسبته إليه».

صورة من المتحف (المصدر : موقع الجزيرة نت)

أدرك المثقفون المقدسيون أن الاحتلال الإسرائيلي يستهدف بشكل أساسي ثقافة الإنسان المقدسي؛ فهو يريد نزعها من تراثها، وجعلها ثقافة استهلاكية بلا مقومات؛ كي يسهل تمرير الأسرلة والتهويد، ولذلك انتهج العديد من المؤسسات المقدسية عدة سبل للحفاظ على تراثها الفلسطيني، وتعزيز صمود المقدسيين أمام التهويد، وتولت بعض المؤسسات التي حاولت التمسك دائمًا بالإرث الفلسطيني مسؤولية إقامة النشاطات التراثية لتثبيت الوجود العربي في المدينة، كما لعبت دورًا في تحضير المقدسي وتهيئته ثقافيًا للمواجهة، وذلك بخلق حراك ثقافي حقيقي لمناهضة الاحتلال.

واحد من أبرز الصروح الثقافية المقدسية هو المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي)، وهو المؤسسة الأكثر معاناة من المضايقات الإسرائيلية التي تسببت في إغلاقه مئات المرات، وهو مستمر مع تراكم الديون عليه للمؤسّسات الرسمية الإسرائيليّة، ومع غياب التمويل العربي للمسرح.

ويعرف المقدسيون جيدًا أهمية الذهاب إلى المبنى التاريخي للمسرح المشُيّد منذ عام 1950، وحضور العروض المسرحية التي تحافظ على الحياة الثقافية، وتفعل الحراك الثقافي الفني حول مدينة القدس، وقد كان من أخرياتها مسرحيّة «دولة خالص تاريخها»، التي أخرجها «نضال بدارنة»، فأظهرت المُعاناة التي يواجهها المقدسي في ظلّ الاحتلال بطريقة كوميديّة، فيما تقدم فعاليات مركز «يبوس»، المؤسس عام 1995، مخزونًا ثقافيًا كبيرًا يساهم في تعزيز الانتماء إلى الثقافة الوطنية، وتطوير ورعاية الفنون الأدائية في القدس.

معلمو القدس يهربون الكتب الوطنية داخل الصفوف الدراسية
«لا يجوز شرعًا تدريس المناهج الإسرائيلية في المدارس بالقدس، ويأثم كل من يقوم بتدريسها، ويأثم كل من أيد ويؤيد تدريسها، ويأثم كل من يرسل ابنه أو ابنته إلى المدرسة التي تدرس هذه المناهج، وعلى الآباء والأمهات أن يكونوا يقظين ومنتبهين لخطورة ذلك، وبهذا نفتي»، هذه فتوى خطيب المسجد الأقصى الشيخ «عكرمة صبري» التي حرمت تدريس المنهاج الإسرائيلي في مدارس القدس.

فعاليات لا منهجية في مدرسة بالقدس

استكمل المعلمون دورهم في حماية التلاميذ من التهويد عبر المناهج، فبالرغم من أن المعركة شرسة، إلا أن بعض المدرسين يجتهد في التصدي للمحاولات الإسرائيلية بمحاربة الهوية الوطنية في المدينة المقدسة، إحداهن تقوم بتهريب كتاب التربية الوطنية الفلسطيني إلى المدرسة من أجل تعليم الأطفال، كما قالت لصحيفة «فلسطين» الصادرة بغزة، إذ منع الاحتلال تدريس هذا الكتاب في مدارس القدس؛ بذريعة معتادة، وهي أن الكتب الفلسطينية تحتوى على تحريض ضد إسرائيل.

وتضيف المعلمة التي تعيش بقرية كفر عقب شمال القدس: «بالرغم مما تحاول قوات الاحتلال القيام به من رقابة وتشديد ومتابعة للمدارس من أجل تدريس المنهاج، إلا أن هناك أساتذة يأخذون على عاتقهم حماية الطفل الفلسطيني من التهويد، بعد أن هودت أرضه ومدينته ومقدساته».

وبالرغم من تمكن الاحتلال من فرض المنهاج الإسرائيلي في بعض المدارس التي تتلقى موازنة منه، إلا أن المعلمين الفلسطينيين في مدراس القدس لم يستسلموا، ويخوضون معارك يومية لمواجهة التجهيل بالحقوق والقضية الفلسطينية لأطفال القدس، وقد يتعرض هؤلاء للفصل النهائي بتهمة «التحريض».

ويمكن هنا الاستشهاد بقضية فصل 12 مدرسًا ومديرًا من مدارس القدس في أغسطس (آب) الماضي، فقد تعرض المدرسون لحملة ملاحقة من قبل بلدية القدس ووزارة المعارف الإسرائيليتين، لعدم قبولهم فرض تعليم كتاب «المدنيات» الإسرائيلي، وإدخال المنهاج الإسرائيلي في مدارسهم «البجروت»، واتهم هؤلاء المدرسون بالقيام بأنشطة وطنية قام بها المعلمون والمديرون في مدارس القدس، ووصل الأمر إلى حد اتهام الحاخام المتطرف «أيلي بن دهان» مدارس القدس بتلقي الأموال من دولة قطر؛ لتعزيز الهوية الفلسطينية بين صفوف الطلاب الفلسطينيين.

جندي إسرائيلي بجوار تلميذات مقدسيات

يذكر أن دولة الاحتلال تعمل على فرض مشروع تهويد المناهج التعليمية في القدس، حيث أعلنت هذا العام عن تمويل خطة خماسية حكومية لـ«تحسين نوعية التعليم في شرق القدس»، وأخفت مخططاتها الرامية إلى ضرب مقومات الهوية الوطنية الفلسطينية، كرفع نسبة خريجي المدارس الفلسطينية المستحقين لشهادة البجروت (التوجيهي الإسرائيلي) من 12% إلى 26%، وزيادة نسبة المستحقين لشهادات تخرج تكنولوجية من 11% إلى 33%.

وقد أغرت مدراس القدس التي تعاني من وضع خدماتي مزرٍ بالحصول على محفزات اقتصادية مقابل تدريس المنهاج الإسرائيلي، بينما لا تحصل المدارس التي لا تطبق هذه الخطة على زيادة في ميزانياتها، ويخترق الاحتلال بذلك معاهدة جنيف الرابعة التي تنص على توفير الدولة المحتلة للأجواء التعليمية المناسبة للطلبة، دون المساس بمجرى العملية التعليمية، أو منع استمرارها.

كيف يتعاون المقدسيون عند هدم منزل أحدهم؟
يعد بناء منزل في أرجاء فلسطين بـ«الحجر القدسي» مدعاة فخر، ذاك الحجر الذي يطلق على الحجر الجيري شائع الاستخدام في بناء منازل سكان القدس، وقد استخدم في بناء المباني بفلسطين منذ العصور القديمة وحتى الآن.

في تلك المنازل العتيقة وغيرها يصر سكان القدس على البقاء بين أنياب أخطر مشروعات الاستيطان الإسرائيلية، فحتى مع الرفض العالمي لقرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، لم تتوان دولة الاحتلال الإسرائيلي عن إعلان قرب مصادقتها على بناء 14 ألف وحدة استيطانية بمدينة القدس، حدث ذلك بعد يوم واحد من قرار «ترامب».

يأتي قرار إنشاء هذه المستوطنات وغيرها من التي أنشئت فعليًا على حساب المنازل الفلسطينية في القدس، حيث تنتهج دولة الاحتلال سياسة شرسة لتمرير هدم المنازل وتهجير المقدسيين منذ احتلال المدينة في العام 1967، فهي تمنع إصدار تراخيص البناء، أو تضع لذلك شروطًا تعجيزية، ثم توجد مواطنًا مقدسيًا مكبلًا بالديون، لا يستطيع تنفيذ قراراتها، بل يصل الأمر إلى إجبارهم على دفع تكاليف الهدم الباهظة، حتى إن بعضهم يقوم بهدم بيته بنفسه بعد عجزه عن دفع التكاليف، كل هذا هدفه دفع المواطنين المقدسيين إلى أن يصبح خيارهم: الهجرة، وترك المدينة.

تقول المواطنة «سحر الشريف»، التي اختارت عائلتها هدم منزلها بأيديها: «هدمنا منزلنا بأدوات يدوية بسيطة، ونحن عائلة مكونة من 11 فردًا، نعيش الآن جميعنا في غرفة واحدة تفتقر لأدنى مقومات الحياة؛ إذ لا يوجد فيها إمدادات مياه ولا كهرباء»، وتضيف سحر لـ«الجزيرة نت»: «أفراد العائلة يضطرون لتنظيم نومهم على شكل مناوبات؛ لأن الغرفة لا تتسع لنوم الجميع في المساء، فيضطر نصف الأشخاص للنوم نهارًا، والنصف الآخر يحظى بالنوم في الفترة المسائية، ولدنا جميعًا هنا، وقررنا الموت هنا، مهما ضاقت بنا سبل الحياة».

في أغسطس (آب) الماضي، كان موعد هدم منزل المقدسي «عبد الكريم أبوسنينة» للمرة الثانية خلال أسبوع واحد تحت ذريعة البناء دون ترخيص، هذا المنزل الذي يوجد في حي البستان ببلدة سلوان (جنوب المسجد الأقصى)، أقدمت جرافات تابعة لبلدية الاحتلال الإسرائيلي على هدمه، حتى بعد إعادة بناء غرفتين مسقوفتين بالصفيح بجهود المتضامنين.

وقد شكلت عملية إعادة البناء مظهرًا معتادًا في المدينة المقدسة، فبمجرد ذهاب آليات الاحتلال، يسارع المقدسيون لمساعدة صاحب البيت المهدم بإزالة المخلفات، ثم إعادة بناء المنزل في بضعة أيام، كذلك شكل مشهد تضامن المقدسيين في إعادة بناء منزل الشهيد «إبراهيم العكاري» بعد تدميره مشهدًا رائعًا، فقد شارك نحو 300 من مختلف شرائح المجتمع في إزالة أنقاض المنزل المُدمًر بإمكاناتهم المتعددة، وبعد أن وفروا منزلًا مؤقتًا للعائلة، شرعوا في عملية البناء لإعادة زوجة الشهيد وأبنائه الخمسة إلى حيث تجمعهم الذكريات مع والدهم، ولذلك لا غرابة أن ترى في القدس خيمة اعتصام هنا أو هناك، أقامها المقدسيون للتضامن مع صاحب منزل هدم بيته.

الدفاع عن المسجد الأقصى بـ«الروح والدم»
قبل شهور قليلة، رابط المقدسيون على مدار 12 يومًا أمام أبواب المسجد الأقصى، محتجين على قرار دولة الاحتلال بإقامة البوابات الإلكترونية والجسور الحديدية والكاميرات أمام أبواب المسجد.

مقدسيات يتناولن الطعام خلال احتجاجات على إقامة البوابات الإلكترونية (المصدر:الشرق الأوسط)

سجلت هذه الأيام مظاهر وحدة للمقدسيين أبهرت الكثيرين؛ فظهر تكافل اجتماعي قل مثيله، عندما حول المقدسيون الأماكن حول الحرم المقدسي إلى مكان اعتصام لا يخلو من الآلاف منهم على مدار 24 ساعة، تحملوا الضرب بالهراوات والغاز المسيل للدموع، وحرارة صيف يوليو (تموز) الملتهبة، واستمروا في إقامة الفرائض الخمس، والأكل والمدارسة، والاستماع للمواعظ والخطب الدينية، موقنين أن الاحتلال لا يفهم إلا لغة الزخم الشعبي الكبير في سبيل إزالة كل التغيرات التي طالت الأقصى.

قدموا بذلك رسالة مفادها أن المواطن المقدسي لن يطأطئ رأسه أمام أي جندي إسرائيلي عند البوابات، فحينها قالت الحاجة «أم محمد موسوس» وهي تجلس على كرسيها المتحرك لـ«الجزيرة نت»: «المسجد الأقصى وبيت المقدس أعز من أرواحنا وأولادنا وأنفسنا، مرورنا من هذه البوابات يعني الذل والإهانة، ولن يمنعنا أحد من المسجد الأقصى، سندخله معززين مكرمين، كلنا وبصوت واحد نرفض هذه البوابات، سننتصر وندخل بسلام آمنين».

وبينما استغرب المتابعون لاعتصام المقدسيين صورًا تظهر انضمام العديد من الشباب غير المتدين لجموع المعتصمين، فقد كان الأمر عاديًا على أرض أية مواجهة مع الاحتلال في القدس، فكل مشاهد الترابط الاجتماعي معتادة في شأن الأقصى، وملزمة للمقدسيين؛ وذلك لأن المقدسيين يعون جيدًا أن الاحتلال يسعى إلى فرض هوية دينية يهودية على الأقصى، الأمر الذي يفرض معركة جماهيرية مع الاحتلال لمناهضة قضايا القدس المتمثلة في التهويد والأسرلة.

مدينة القدس

يقول مراسل موقع «عرب 48»، ضياء حاج يحيي في مقاله «ليلة تلقى المقدسيون أمرَ استدعاء فوري»: إن «تلبية هذا النداء، بهذه السرعة، جعلتني ألتفت شمالًا ويمينًا، وأتساءل: أين الجمع المصلي الذي كان قبل ساعات؟ وحين تمعنت، لم أجد أحدًا إلا المقدسي في ساحة المعركة، بين القنابل الصوتية والمسيلة للدموع، يراوغ الرصاص المطاطي، وكل ذلك حبًا للأقصى».

ويضيف وهو مقدسي غطى أحداث الأقصى الأخيرة: «ذلك المسجد الذي يعتبره المقدسي جنته الشخصية، فضلًا عن الشعائر الدينية، حيث يفر من واقع الاحتلال والتفتيش، والضرب والقهر المهين، إلى باحاته التي تمتلئ بالسكينة والهدوء، حتى أيقن الشاب المقدسي ربما ما لم يوقنه أجداده، أن الأقصى هو الورقة الأخيرة في سقوط الشعب الفلسطيني كله تحت سطوة الاحتلال. إذا ما سقطت؛ فعلى فلسطين السلام».

التعليقات معطلة.