القضية الفلسطينية واليمين الأميركي الأصولي

1

 
إميل أمين
 
خُيل للكثيرين أن تيار اليمين الأميركي الأصولي وعماده الجماعات الإيفانجيلية المسيحية الأميركية، قد توارى عن الأنظار بعد اختيار باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، ونهاية ولاية جورج بوش الابن، التي كانت تجسيداً حقيقياً لهذا المد الأصولي، وعلى نحو خاص منذ حرب فيتنام، حين تجلى هذا الاتجاه المغلوط لصحيح الدين الإيماني المسيحي.
غير أن هؤلاء على كثرتهم كانوا من دون أدني شك مخطئين كل الخطأ، ولا سيما ونحن نتحدث عن علاقة عضوية بين الولايات المتحدة ومواطنيها، وبين دولة إسرائيل وساكنيها.
يعنّ لنا التساؤل: «من أين يمكن للمرء أن يبدأ في الحديث عن آخر تطورات المشهد اليميني المسيحي الأميركي، ولماذا هو تقاطع وتشارع مؤخراً مع القضية الفلسطينية على نحو خاص؟
المقطوع به أن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس الذي اتخذه الرئيس دونالد ترمب ضمن اعترافه الأوسع بالقدس عاصمة للدولة الإسرائيلية وإغفال الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ثم زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الأخيرة إلى الشرق الأوسط، قد أعادت طرح هذه الإشكالية ووضعتها على طاولة النقاش مرة أخرى.
على أنه قبل القطع بإشكالية ترمب وبنس ومآلاتهما وتداعياتهما على المنطقة وعلى سلام العالم، ربما يتعين علينا الإشارة إلى الرؤية الدوغمائية التي يؤمن بها هذا الفريق من المسيحيين اسماً ورسماً، والمفترقين من قبل الصهيونية العالمية عنها نفساً وجسماً.
يؤمن هذا التيار بأن عودة القدس واليهود بشكل عام إلى أورشليم هي علامة لنهاية الأزمنة ومجيء السيد المسيح مرة جديدة إلى الأرض، غير أن إيمانهم يفترق عن الإيمان الذي تعتبره وتعتنقه الكنائس الأساسية للمسيحية، وفي مقدمها الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية بأنواعهما المختلفة حول العالم.
ما الذي يشكله المسيحيون الإنجيليون من قوة سياسية في الداخل الأميركي في حاضرات أيامنا؟
مؤكد أنهم يبلغون زهاء 13 في المائة من سكان العالم المسيحيين وليس الأميركيين فقط، وهناك في الداخل الأميركي يصل تعدادهم إلى ربع سكان الولايات المتحدة، أي نحو ثمانين مليون أميركي جلهم من الأنغلو – ساكسون الـWASP، وهم يعتبرون الآن المجموعة الدينية الأميركية الأكثر تعاطفاً مع إسرائيل.
ومن نافلة القول أن إيمان المسيحيين الإنجيليين بأن هجرة اليهود لإسرائيل وإقامة الدولة اليهودية هي جزء ضروري من عملية الخلاص المسيحية، وفي كل مكان تتعزز فيه الحركة البروتستانتية يتزايد الطموح بمساعدة «الأراضي المقدسة»، أي إسرائيل، وتتم ترجمة ذلك أكثر وأكثر من خلال الدعم المالي، عبر التبرعات التي تصل إلى القدس مباشرة.
والشاهد، أنه لكي نفهم خلفيات قرار ترمب الخاص بالقدس، يتوجب علينا أن ندرك كيف أن ترمب قد غازلهم خلال حملته الانتخابية الرئاسية بشكل كبير، فعيّن عدداً منهم مستشارين له؛ ولهذا حظي بتأييد واسع في بقية الولايات الأميركية، ولعل أهم وأخطر وعوده التي كفلت له تصويت هذا الفريق الديني هو العزف على هذا الوتر الإيماني المنحول المتصل بالقدس اتصالاً وثيقاً؛ ولهذا وعد بتنفيذ ما لم يقدر على تنفيذه أي رئيس أميركي منذ عام 1995، أي اعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، ولم يكن غريباً أن يصوّت له نحو 81 في المائة من هذا التيار، أي أكثر من 60 مليون ناخب أميركي؛ ما جعل الطريق إلى البيت الأبيض معبدة لترمب، وترك هيلاري كلينتون خارجاً على الأبواب.
هل كان قرار ترمب إذن إيفاءً بالوعود ولضمان دعم هؤلاء المتصهينين في المواقع والمواضع الرسمية الأميركية كافة، وبنوع خاص في الكونغرس بغرفتيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك فعلاً وقولاً؛ فالرجل يضع نصب عينيه ولاية ثانية يخطط لها منذ الآن.
ولعل ما يعزز الحاجة إلى تأمل المشهد اليميني الأميركي بعمق هذه الأيام وجود مايك بنس نائباً لترمب، بما يحمله من سمات شخصية من جهة، وتطلعات وظيفية سياسية من جهة ثانية…
بنس رجل له دالة على العمل السياسي منذ زمن بعيد، بخلاف ترمب رجل الأعمال؛ ولهذا فإن حظوظه كبيرة في أن يحصل على ترشيح الحزب الجمهوري رئيساً للولايات المتحدة في انتخابات عام 2020، أو التي تليها، هذا إذا سارت الأمور على النحو المعتاد سياسياً، لكن في حال تعرض ترمب للإقالة أو أجبر على تقديم الاستقالة جراء «روسيا – غيت»، سيضحى بنس رئيساً بشكل آلي، وقد تتعزز فرصه في الفوز بالرئاسة، وفي الوقت نفسه إيفانجيلي حتى النخاع.
هل يعني وجود ذلك التيار وراء ترمب اليوم أن أوضاع فلسطين باتت قدراً مقدوراً في زمن منظور؟
هناك نحو مليارين ونصف المليار من المسيحيين حول العالم لا يؤمنون بمثل هذه الرؤى التي تسمى «الأبوكريفية» أي المزيفة أو المنحولة.
غير أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة؛ لذا نرى هؤلاء صوتهم أعلى، لكن ليس بالضرورة أنهم الأكثر فاعلية في الداخل الأميركي أو حول العالم، والدليل أن المؤسسة الفاتيكانية وبابا روما يرفضون مثل تلك التهويمات اللاهوتية، وقد كان موقف البابا فرنسيس رافضاً لقرار ترمب، وداعماً لحل الدولتين؛ ما يعني زخمه لقيام دولة فلسطينية مستقلة، ورفضه المطلق الهيمنة اليهودية بالمرة على القدس.

التعليقات معطلة.