على بعد 1000 كلم عن العاصمة الجزائر، حطت رحالنا بمدينة بشار، وعلى بعد 90 كلم عنها، توجهنا نحو تاغيت، المدينة الصحراوية السياحية بامتياز، هنا سحر الرمال وعبق الجنوب وريحانة الوطن الكبير. في جولة قادنا فيها الفنان والممثل المسرحي ومدير المركز الثقافي في تاغيت سابقاً عبد المجيد زيناني، غاص “النهار العربي” في عمق هذه المدينة، ذات الكثبان الرملية المترامية، والوجهة السياحية الصحراوية الجميلة.
تاغيت، أو جوهرة الصحراء الجزائرية أو عروس الساورة مثلما تسمى، واحاتها ونخيلها وتنوع طبيعتها تجذب إليها السياح من داخل الجزائر وخارجها، أما كثبانها الرملية فارتفاعها الذي يصل إلى 750 متراً يسر الناظرين. في تاغيت شيء من الفن الطبيعي الممزوج بأصالة أبنائها وعراقتهم، الذين ظلوا إلى الآن متمسكين بعاداتهم وتقاليد أجدادهم، ملبساً ومأكلاً و… فناً أيضاً. لا يمكنك أن تدخل المدينة الصحراوية الجميلة من دون أن تسمع “رنين” آلة القمبري، أميرة الآلات الموسيقية الصحراوية، مكونات صنعها خشب وجلد إبل مجفف وأوتار ثلاثة، أحدها قصير واثنان طويلان، وصندوق خشبي. القمبري واحدة من آلات موسيقى الديوان أو ما يعرف بـ”القناوة”، الموسيقى التي ذاع صيتها في العالم وأسست لها الجزائر مهرجاناً سنوياً منذ عقد من الزمن.
آلة القمبري تتوسط خيمة في تاغيت.موسيقى الديوان… الأصالة والمعاصرةتأسس المهرجان الدولي الثقافي لموسيقى الديوان (القناوة) قبل أكثر من 10 أعوام، واستقطب العديد من الفرق المحلية والأفريقية والمغاربية الممارسة لهذا النوع من الموسيقى ذات الطابع الصحراوي الأصيل.
عند تجوالنا في تاغيت، صادفنا محمد دامو، المهتم والباحث في تقاليد المنطقة عموماً وفي موسيقى الديوان على وجه الخصوص. دامو من عائلة فنية راقية، فوالده أسس فرقة موسيقية متخصصة بـ”القناوة”، وهو الآن يرافع للحفاظ على أصالة هذا الطبع من الموسيقى، ويدافع عنه ويدعو إلى العودة إلى الأصل الأول. “في الستينات كان يسمى ديوان فيلالي، هو نوع من الديوان أو ما يسمى اليوم بـ”القناوة”، ضرب ثقيل مع طقوس مميزة” يقول دامو لـ”النهار العربي”، ويضيف: “في فصل الخريف يبدأ التحضير لإقامة ليلة الديوان، بعد ذلك تبدأ الصدقة أو ما يسمى صدقة الديوان، ثم يتم شراء وذبح العتروس (ذكر الماعز)، مع دعوة كل من هو معني بالديوان وكل ساكني المنطقة”. ويؤكد أن موسيقى الديوان انطلقت بمدينة الدبدابة شرقي مدينة بشار، وسرعان ما أنشئت فرقتان، الأولى سميت بفرقة الديوان الفيلاني وفرقة أخرى في تيميمون بمحافظة أدرار.
محمد دامو متحدثاً إلى مراسل “النهار العربي”. “في بشار كنا نضربوا ديوان ثقيلة وبشوية دخل عليه ديوان الشرقي” يقول محمد دامو بلهجة بشارية قحة، ويضيف: “ديوان الشرقي منبته الغرب الجزائري وبالضبط في وهران ومستغانم وسيق؛ أصول أهله من الصحراء وغادروا إلى الغرب”.
استوقفناه لنسأله عما يميز موسيقى القناوة التي يتحدث عنها والتي تميز الكثير من الفرق اليوم، وأيضاً مهرجانها الذي بات متنقلاً بين عدد من المدن الجزائرية الشمالية منها والصحراوية، فأجاب: “الديوان الأصلي يحمل في طياته العديد من الطبوع منها المحلة والمعلم ولعريفة والشاوشة، ويبدأ من الـ6 مساءً ويستمر إلى غاية الصباح التالي، أما انطلاقته، فتكون بـ”صلوا على نبينا”، ثم لعفوا، وهي أهازيج غنائية ديوانية تطوف بها الفرقة المؤدية على كامل المجموعة الحاضرة إيذاناً بالبداية”. “نريد استرجاع أصل موسيقى القناوة”لم يتوان دامو عن إطلاق دعوات رسمية لوزارة الثقافة الجزائرية، من أجل استرجاع أصالة موسيقى الديوان وعراقتها… “نريد مهرجاناً للديوان الأصلي، لا ضير في المهرجان الحالي المتشبع بمعاصرة الجيل الحالي من المحبين للقناوة ولكنه بعيد في طبوعه من أصل القناوة” يضيف دامو، ويلفت إلى أن للديوان 360 برجاً (طقوس)، كل برج تميزه طقوس خاصة به، حيث يشرع في الإتيان بها (الأبراج) مباشرة بعد البداية. ويذكر بعض هذه الأبراج، فيقول: “ثمة برج بولي، برج سراقة، الخدمي وبرج الحلوى وبرج بودربالة، الأخير يضربون بأرجلهم على السجاد، وبرج مولاي إبراهيم وغيرها؛ كما هناك أبراج غريبة في طقوسها بعض الشيء، مثل برج “سيو” الذي يُستعمل فيه الماء لتطوف الفرقة حوله، وبرج “ميقزاوا” حيث يذبح فيه الأرنب”.
هي أبراج أو طقوس تميز أداء موسيقى الديوان أو القناوة، إذ يدعو دامو وغيره ممن التقاهم “النهار العربي” في تاغيت، إلى ترسيم مهرجان خاص بما يسمونه موسيقى الديوان على أصولها، “وليس لنا في الأمر سوى حبنا وغيرتنا على ثقافة وتراث منطقتنا وكل الجزائر”، يختم دمو حديثه معنا.