الكذب والتجمل

3

د.أحمد مصطفى أحمد

هناك قصَّة قديمة للكاتب المصري الرَّاحل إحسان عبد القدوس، تحوَّلتْ إلى مسلسل إذاعي وفيلم سينمائي، بعنوان «أنا لا أكذب لكنِّي أتجمَّل». خلاصتها أنَّ شابًّا من وسط فقير متواضع جدًّا يدَّعي وضعًا مختلفًا كَيْ يتَّسقَ مع زملائه في الجامعة إلى أن ينكشف وضعه فتنهار قصَّة حُب مع فتاة من طبقة مُتَوَسِّطة. ويبرِّر الشَّاب كذبه بشأن حالته ووضعه وأهله بأنَّه إنَّما «يتجمل» لتحسين الصورة وليس كذابًا. وفي التِّجارة والأعمال هناك أيضًا في التَّسويق والتَّرويج وتمرير الصَّفقات بعض الكذب الَّذي يوصف بأنَّه من باب التجمُّل لتحسينِ صورة سلعة أو تضخيم مزايا خدمة. وأصبحتِ الأخيرة مهنةً لها من يعملون بها باعتبارها وظيفة وهم من ينضوون تحت ما يُسمَّى «فنّ الدعايَّة». ويُمكِن أن تضمَّ إِلَيْهم مؤخرًا مَن يوصفون بمصطلحات ارتبطت بانتشار الإنترنت ووسائل التَّواصُل مِثل «نشطاء» أو «مؤثرون» وغيرها من الصِّفات المرتبطة بكُلِّ موقع تواصُل على حِدة كما نقرأ اليوم ونسمع: «يوتيوبر» «تيكتوكر» وهلمَّ جرّا.

لم تكُنِ السِّياسة بعيدة عن التجمُّل، وأحيانًا الكذب الصَّريح، في سياق خداع الجماهير عَبْرَ ما يُسمَّى «تشكيل الرَّأي العام». وكانتِ الصِّحافة في وقت ما أداة المُجتمع لفضحِ الزَّيف وكشف الكذب وحتَّى التجمُّل بقدر كبير. مع ذلك، لَطالَما تمَّ خداع الجماهير العريضة في مُجتمعات وأحيان مختلفة، لكنَّ الأمْر لم يكُنْ «حالة عامَّة» في كُلِّ البُلدان والمناطق. أمَّا الآن، فلدَيْنا في أعتى الديموقراطيَّات وأكثر المُجتمعات الَّتي تدَّعي احترام القانون والنِّظام سياسيون أهمّ مميزاتهم هي انتهاك القانون، وبعض هؤلاء وصلَ إلى أعلى مراتب السُّلطة. ليس فقط بالكذب والخداع والتَّضليل، ولكن للأسف المثير للدَّهشة أنَّ جماهيرهم تنتخبهم بأغلبيَّة وترى في خرقهم للقوانين ما يعدُّونه جرأة، كما هو الحال مع كثيرين في الولايات المُتَّحدة مثلًا الَّذين صدَّقوا أنَّ رئيسهم بطل؛ لأنَّه يتحدَّى القضاء. بل إنَّ جماعة متشدِّدة من هؤلاء يرون أنَّ القضاء ليس وسيلة إنصاف وإنَّما أداة في يد «الدَّولة العميقة» لمعارضةِ بطلِهم. صحيح أنَّ «تسييس» القضاء ليس مستبعدًا دومًا، لكن في أغلبِ الحالات الَّتي نشهدها الآن يبدو الأمْر قانونيًّا تمامًا وليس سياسيًّا.

بِغَضِّ النَّظر عن موقف النَّاخبِينَ من المُجرِمِين المُدانِين أو حتَّى الَّذين وجِّهتْ إِلَيْهم اتِّهامات، كيف للنَّاس أن ترفعَ من يمارس الكذب بفجاجة واضحة أحيانًا إلى هذه المكانة القياديَّة؟ وكيف لهم أن يثقوا في أنَّه سيُدير أمورهم بشكلٍ أمين ونظيف وهم يدركون أنَّه يكذب، وليس فقط يتجمل!! قبل أيَّام، حين اشتعلتِ النيران حَوْلَ مدينة القدس وأحرقتْ مساحات واسعة بسبب الجوِّ من حرارة ورياح أراد الاحتلال أن يلقيَ بالكارثة الطبيعيَّة على الفلسطينيِّين. وبالفعل اعتقلتِ الشُّرطة ثلاثة أشخاص، أفرجت عَنْهم بعد ذلك لعدم ثبوت أنَّ لهم علاقة بالحرائق. ليس هذا هو المُهمَّ، لكن فَور الاعتقال خرج رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لِيعلنَ أنَّه قد ألقى القبض على ثمانية عشر شخصًا هم مَن أشعلوا الحرائق. وعلى الفَور صرحتِ الشُّرطة بأنَّ هذا غير صحيح حتَّى أنَّ وسائل الإعلام «الإسرائيليَّة» نقلتْ عن الشُّرطة قولها «لا نعرف من أين أتى نتنياهو بهذه المعلومات والأرقام». بعد ذلك بيومين، نقلتْ وسائل الإعلام عن نتنياهو قوله عن الرَّئيس الأميركي دونالد ترامب أنَّ تصرفاته بشأن إيران عكس ما يقوله في الغرف المغلقة. ولا يحتاج المرء لتصريحٍ من رئيس حكومة الاحتلال ليكتشفَ كذب ترامب الَّذي تخصَّصتْ بعض وسائل الإعلام في متابعته يوميًّا ـ وكانتْ في فترة رئاسته الأُولى تنشر يوميًّا عدد الكذبات الَّتي يُطْلقها وتنشر ما هو صحيح عكسها. أمَّا نتنياهو فقد قال عَنْه الرَّئيس الأميركي السَّابق جو بايدن إنَّه «يكذب كما يتنفس». إنَّما اخترتُ أنَّ أضرب مثاليْنِ فقط لأنَّهما سياسيَّان بارزان يؤثِّران ليس في حياة جماهيرهما فحسب، وإنَّما في مناطق واسعة، بل وفي العالَم أجمع. المصيبة الأخطر أنَّ تلك النماذج الشَّهيرة تجعل من كذب السِّياسيِّين أمرًا يكاد يكُونُ مقبولًا ومعتادًا، وهذا يدمِّر أيَّ ثقة بقِيَتْ في السِّياسة عمومًا وليس في تلك البُلدان فقط.

قَبل عقود قليلة كانتْ مجرَّد شبهة كذب أو احتمال تعدٍّ على القوانين والقواعد تخرج الشَّخص من الحياة العامَّة تمامًا. وفي بعض المُجتمعات كان ذلك يُمثِّل ضغطًا هائلًا على الشخصيَّة المعنيَّة ويدفعها إلى الانتحار. أمَّا الآن، فلم يَعُدِ الأمْر تجملًا أو قول «نصف الحقيقة» لإقناع النَّاس بغير الواقع وإنَّما الكذب الصَّريح والتَّلفيق والتَّضليل بكُلِّ أريحيَّة وكأنَّ ذلك هو الطَّبيعي. ساعد على ذلك أيضًا غياب دَوْر الصِّحافة التَّقليديَّة الَّتي كانتْ إلى جانب أنَّها أداة للمساءلة وكشفِ الحقائق وتدقيق المعلومات أيضًا وسيلة مزدوجة الاتِّجاه بَيْنَ السُّلطات والأعمال من طرف والجماهير العاديَّة من الطَّرف الآخر. على حساب تراجع ذلك الدَّوْر زاد تأثير مواقع التَّواصُل بكُلِّ ما توفره لمستخدميها من أدوات يُمكِن الاستعانة بها بسهولة ويُسر في التَزييف حتَّى للصوَر والفيديو. تقول الحكمة التَّقليديَّة إنَّ «الكذب يورث الكفر» وقيل أيضًا إنَّ «الكذب أبو كُلِّ الشرور». لا يبدو أنَّ أحدًا أصبح يعبأ بذلك الآن، بل قد تجد من يردُّ عَلَيْك إذا ذكرتَ ذلك بأنَّ هذا «كلام عفا عَلَيْه الزَّمن» أو من قبيل التَّبرير بأنَّ «هذه هي السِّياسة، عمليَّة براجماتيَّة». لكنَّ هناك فارقًا شاسعًا بَيْنَ البراجماتيَّة، أي النفعيَّة العمليَّة، والكذب والتَّضليل.

التعليقات معطلة.