مقالات

الله يخلق الجغرافيا والناس يصنعون التاريخ بأيديهم

عثمان بن ياسين الرواف
عنوان هذه المقالة هي حقيقة قديمة صحيحة، ويمكنها أن تساعدنا في فهم بعض جوانب الأزمة الحالية بين إيران والعرب. فخلق الأرض وسكانها في أماكن مختلفة في العالم هو شأن إلهي رباني لا دخل للبشر فيه، ولكن الناس هم الذين يتخذون القرارات ويصنعون السياسات التي تؤثر في أحداث ومجريات التاريخ. قرارات قد تؤدي إلى التنمية أو التخلف، إلى البناء أو الهدم، إلى الحرب أو السلم.
 
ويوضح التاريخ الإنساني أن علاقات الدول وتفاعلها مع بعضها يتأثران كثيرا بعامل الجغرافيا، وأن كثيرا من النزاعات والحروب القديمة في أوروبا والحالية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ارتبطت وترتبط بالدول المتجاورة كما هي الحال في مشكلات العرب الحالية مع إيران، فالعلاقات العربية الإيرانية تشهد الآن أسوأ فتراتها وتنتقل من أزمة إلى أزمة، ومن مواجهة إلى مواجهة مع احتمال نشوب حرب واسعة بينهما في أي يوم أو لحظة، وكم من لسان حال عربي يقول ليت إيران لم تكن جارتنا، وكانت عوضا عنها أية دولة إسلامية أخرى مثل إندونيسيا أو مالي أو ألبانيا أو غيرها، ولكن حقيقة أمر الجغرافيا حلوة كانت أم مرة هي أن إيران جارتنا وستبقى جارتنا ولن تذهب إلى أي مكان آخر ولا يمكن تبديلها بغيرها، وعلى العرب أن يتعاملوا معها بالسلم أو الحرب.
 
استعرضت في مقالة سابقة أهم مشكلات العرب الحالية مع إيران، وأسأل في هذه المقالة عن إمكان الحكم على احتمالات تطور هذه المشكلات، وهل هي متجهة نحو الأسوأ أم نحو الأفضل، وقد تساعدنا نظرة سريعة عبر نافذة التاريخ على إجابة هذا السؤال، إذ كانت إيران قبل الإسلام دولة أو إمبراطورية فارسية كبيرة تتنافس في فرض نفوذها على المنطقة مع الإمبراطورية الرومانية ووقعت بينهما العديد من الحروب والمصادمات ووصلت جيوش الفرس إلى اليونان، ولكنها لم تتمكن من إخضاعها، ثم جاء الإسكندر المقدوني وهزم الفرس في عقر دارهم وفتح بلادهم وحكمها ولاحظ وجود حضارة خفية بين الفرس غير قادرة على التعبير عن نفسها، وتابع الإسكندر تحركه نحو الهند ولم يتمكن من فتحها ثم تفرق جيشه الجبار ومات في طريق عودته إلى اليونان بعد أن اكتشف وجود بذور حضارية دفينة في إيران.
 
وإلى جانب صدامهم وحروبهم مع الرومان والإغريق، كان الفرس يفرضون نفوذهم على القبائل العربية المجاورة لهم في العراق ويسيطرون على أمراء وحكام الحيرة وغيرها، كما قام كسرى أبرويز بسجن وقتل النعمان بن المنذر صديقه وحليفه القديم بعد أن غضب عليه لأسباب تافهة، ولقد أدت أحداث سجن وقتل النعمان إلى نشوب معركة ذي قار الشهيرة التي انتصر فيها العرب على الفرس انتصارا كبيرا. ويُروى في حديث مهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن معركة ذي قار: «هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا»، وبصرف النظر عن صحة أو عدم صحة هذا الحديث فإن معركة ذي قار وأحداثها التي ترتبط بتسلط الفرس على العرب موثقة في التاريخ والشعر العربي، وخاصة في قصيدة مشهورة للأعشى جاء فيها:
 
وجند كسرى غداة الحنو صبحهم
 
منا كتائب تُزجي الموت فانصرفوا
 
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا
 
ليعرفوا أننا بكر فينصرفوا
 
قالوا البقية والهندي يحصدهم
 
ولا بقية إلا السيف فانكشفوا
 
وبعد ذي قار بفترة غير طويلة هزم العرب المسلمون الفرس في معركة القادسية التي تمكن العرب فيها من إخضاع فيلة الفرس التي كانت بمثابة مدرعات عسكرية قوية في ذلك الوقت وقتلوا رستم القائد العسكري الشهير لجيوش الفرس، ثم دخل الفرس في الإسلام بعد أن هداهم الله اليه. وبصفة عامة فلقد أحبت شعوب المناطق المفتوحة الإسلام والعرب الذين حملوا رسالته إليهم، ولكن الفرس كما يعتقد كثير من المفكرين العرب وإن كانوا قد أحبوا الإسلام صادقين إلا أنهم كرهوا العرب أصحاب الدعوة وحملة الرسالة الإسلامية للعالم.
 
فحب الإسلام عند الفرس هو شيء وكرههم للعرب هو أمر أو شيء آخر، ولكن الزعم من البعض بكره الفرس للعرب يبقى نظرية لا يمكن تعميمها على كل الفرس مهما وجدت مظاهر تدعم وتؤكد وجودها، فليس كل الفرس يكرهون العرب بالضرورة، والكثيرون منهم يحبون العرب ويتكلمون اللغة العربية، غير أن ممارسات الحكومة الإيرانية وأنصارها في الوقت الحاضر وتصريحات وأحاديث وتغريدات بعض المسؤولين الإيرانيين تدل فعلا على وجود عنصرية فارسية قوية ضد العرب، وأن أصحاب هذه العنصرية من الفرس لا يخفونها ويفصحون عنها في مناسبات عدة داخل إيران وخارجها وبطرق مباشرة وغير مباشرة، وسأشير إلى قصة أعرفها جيدا وأريد مشاركة القارئ بها، ففي أواخر التسعينات من القرن الماضي زار السفير الإيراني في إسبانيا جامعة إشبيليا وألقى في قسم الدراسات العربية والأندلسية محاضرة عن الإسلام وقال للحضور وغالبيتهم من أساتذة وطلاب اللغة العربية ودراسات الأندلس ما يفيد بأن الإيرانيين والإسبان يتشابهون في شيء ويختلفون في شيء آخر في علاقتهم الطويلة بالعرب، فهم يتشابهون في طردهم للعرب الغزاة من إيران وإسبانيا، ويختلفون في أن الإيرانيين تمسكوا بالإسلام بينما لم يتمسك الإسبان به، ولقد ركز السفير الإيراني في محاضرته كثيرا على الدور الفارسي في الحضارة الإسلامية، وتمنى في نهاية حديثه التعاون المثمر بين إيران وإسبانيا، وأن تحصل إيران على دعم الحكومة الإسبانية لأنشطة إيران في العالمين العربي والإسلامي.
 
ولقد فوجئ السفير الإيراني وشعر بالحرج من رد فعل الجمهور الإسباني على ما جاء في محاضرته التي تضمنت موقفا عنصريا واضحا ضد العرب، ولم يأخذ سفير إيران في حسبانه أن جمهور الحضور من الإسبان يحبون اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، ويعتبرون التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس جزءا أساسيا من التاريخ الإسباني.
 
فلقد قابل الإسبان محاضرة سفير إيران بالفتور والرفض، وسمع السفير ردودا سلبية وانتقادات شديدة على ما جاء في محاضرته التي وصفت بافتقارها للدبلوماسية والكياسة واللباقة الأدبية، وقد جاء فيها إهانات صريحة للعرب والإسبان معا، ولم يقابل العرب كره الفرس في حالة وجوده بكره مقابل له، بل أحبوهم واحتضنوهم بعد إسلامهم، وأصبح بعض الفرس من مشاهير الوزراء وقادة الجيوش في الدولة العباسية.
 
والإسلام حقيقة هو الذي أتاح للفرس فرصة الكشف عن مواهبهم الحضارية التي لاحظها الإسكندر المقدوني، فدور الفرس المعروف في الحضارة الإسلامية قد حصل في المقام الأول لأن العرب لم ينظروا باستعلاء للفرس ورحبوا بمشاركتهم في إثراء الحضارة الإسلامية التي احتوت الفرس وغيرهم من المسلمين. وتستخدم حكومة الملالي الحالية في طهران العنصرية ضد العرب كجزء مهم في استراتيجية سياستها الإمبريالية الإقليمية التي ناقشتها في المقالة السابقة، ورأت في احتجاجات الإيرانيين الغاضبين على سياستها الخارجية والداخلية أخيرا، تحديا كبيرا لسياسة توسيع نفوذها في المنطقة العربية. ولهذا، أقدمت حكومة طهران على قمع هذه الاحتجاجات بسرعة ودموية كبيرة، وأن توجهات حكومة إيران في الترويج للعنصرية ضد العرب وقيام حكومة الملالي بقمع احتجاجات الشعب الإيراني الأخيرة يدلان بوضوح علني تمسك طهران بسياسة فرض نفوذها في الدول العربية.
 
ومن متابعة هذه التطورات والاستفادة من دروس التاريخ يمكننا القول بصفة عامة؛ إن مشكلات العلاقات العربية – الإيرانية ستتجه نحو التصعيد وليس التهدئة، ولكن تمرد الإيرانيين على حكومتهم وإحراقهم صور الملالي وزيادة الضغوط الدولية على إيران وظهور بعض الانقسامات بين القيادات الإيرانية وارتفاع أصوات المعتدلين الإيرانيين المعارضين للسياسات الإيرانية قد يجبر حكومة طهران على إعادة أوراقها في بعض ملفات المنطقة، ويقلق هذا الأمر حقيقة المتشددين في إيران كما يقلق بشكل خاص النظام السوري وحزب الله والحوثيين. وقد تطلب حكومة إيران الدعم المالي من قطر، وقد تفتح حكومة قطر حقيبتها المالية لإنقاذ إيران من مأزقها الحالي، ولكن الفاتورة مرتفعة جدا ولن تتمكن قطر من تقديم المساعدة الكافية لإيران.
 
وخلاصة القول، هو أن حكومة طهران وحزب الله اللبناني والحوثيين باليمن سيواجهون في الفترة القادمة مجموعة من المشكلات والأزمات والضغوطات التي قد تدفعهم نحو التصعيد أو التهدئة بحسب إمكاناتهم ورؤيتهم للأمور، وينبغي على العرب أن يكونوا مستعدين للتعامل مع هذين الاحتمالين معاً.