اقتصادي

الليرة التركية في أدنى مستوى… تحدّ جديد لأردوغان قبيل الانتخابات المحلية

عملات نقدية من الليرة التركية

واصلت الليرة التركية خسارة قيمتها أمام سلة العملات الأجنبية، حيث سجّل الدولار الأميركي أعلى مستوى له على الإطلاق مقابل العملة التركية في تداولات نهاية الأسبوع، ما كبد المستثمرين الصغار خسائر فادحة وسط تخفيض الجهات المالية العالمية توقّعاتها نحو العملة التركية.

وجرى تداول الدولار مقابل 29.99 ليرة في البورصة الرسمية التركية، بينما تجاوز مستوى 30 ليرة بالأسواق الحرة، فيما ارتفعت قيمة اليورو بنسبة 11 بالمئة، لتستقر العملة الأوروبية الموحدة عند سقف 33 ليرة.

الاقتصاد ضحيّة سياسات تخفيض الفائدة السابقة

ومنذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الحاسمة التي جرت في 14 أيار (مايو) الماضي، خسرت الليرة التركية ما يقارب 60% من قيمتها مقابل العملات الأجنبية، وسط توقّعات باستمرار هذه الخسائر وصولاً إلى مستوى 34 ليرة للدولار، قبل الانتخابات المحلية المقررة في نهاية آذار (مارس) المقبل، و45 ليرة للدولار مع نهاية عام 2024.

ويرى الصحافي التركي المختص بالاقتصاد بهادير أوزغور في حديث مع “النهار العربي”، أن “التأثير التضخمي الناجم عن سياسات الفائدة المنخفضة كان السبب الأكبر لانخفاض قيمة الليرة التركية خلال الأعوام الأخيرة”.

ويشرح أوزعور، المحلل الاقتصادي لقناة “هالك تي في” التركية، أن “الحكومة استخدمت احتياطيات البنك المركزي والودائع المحمية بسعر الصرف، من أجل إبقاء سعر الصرف عند مستوى معين من خلال عدد من الإجراءات الصارمة، التي تلبّي توقعات المصدرين وتمنع في الوقت ذاته سعر الصرف من الارتفاع بشكل لا يمكن السيطرة عليه”.

ودافع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ومسؤولو حكومته عن سياسات تخفيض سعر الفائدة لسنوات طويلة، استناداً على فرضية أن تراجع قيمة الليرة التركية يؤدي إلى رفع معدّلات التصدير، وبالتالي تطوّر الاقتصاد عبر تنشيط قطّاعي الصناعة والتجارة، بالإضافة إلى استقطاب أعداد أكبر من السياح.

لكن الاعتماد الكبير للصناعة التركية على المواد الخام المستوردة، والاضطرابات في السياسة الخارجية، بالإضافة إلى التدهور المتسارع لقيمة الليرة التركية ووصول أرقام التضخّم إلى مستويات غير مسبوقة، وغيرها من الأسباب، عمّقت من الأزمة الاقتصادية للبلاد، ما دفع بالرئيس التركي إلى اجراء تغيير شامل للفريق الاقتصادي والعدول عن السياسات السابقة بالتوجّه إلى سياسات متناقضة معها تماماً.

وبحسب أوزغور فإن “الاقتصاد التركي يعتمد بشكل كبير على الموارد الأجنبية، وتبنّت المجموعة الاقتصادية بالحكومة الحالية، بقيادة محمد شيمشك (وزير الخزانة والمالية)، سياسة نقدية تعتمد على زيادة أسعار الفائدة. وبطبيعة الحال، نحن لا نتحدث هنا عن برنامج استقرار صارم من شأنه أن يقلل من التضخم. بل الهدف من زيادة أسعار الفائدة في الأساس هو تسريع تدفّق الرساميل الأجنبية، والتي تتكون أساساً من استثمارات المحافظ، بينما لم يتم اتخاذ إجراءات هامة فيما يتعلق بالتضخّم، بالاعتماد على التأثير الأساسي”.

تداعيات واسعة النطاق

ومع بدء التراجع في قيمة الأسهم، دفع الخوف من الخسارة والقلق من تسارع وتيرة الانخفاض صغار المستثمرين إلى إغلاق حساباتهم الاستثمارية، والانسحاب من البورصة سريعاً. حيث كشفت الأرقام الرسمية عن انخفاض عدد المستثمرين، الذي سجّل رقماً قياسياً عند 8.6 مليونا في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إلى ما دون 7.6 مليونا في كانون الأول (ديسمبر) 2023، ليبلغ حجم المحافظ الاستثمارية التي غادرت سوق الأوراق المالية في الفترة من تشرين الأول إلى كانون الأول من العام الماضي 172 مليار ليرة.

ويوضح الصحافي التركي أن “الهدف الرئيسي لشيمشك هو تنشيط سوق السندات وضمان دخول الموارد الأجنبية، أي الأموال الساخنة. لذلك، لم يكن هناك تركيزاً على التقدير الحقيقي لليرة، بل الهدف هو منع صدمات أسعار الصرف. وفي الواقع، فإن ارتفاع قيمة الليرة التركية من شأنه أن يقلل الصادرات، التي تشكل حالياً السياسة الاقتصادية الرئيسية للحكومة”.

وسجّلت الصادرات التركية في عام 2023 تحسّناً طفيفاً بزيادة بلغت 0.6 بالمئة فقط، لكّنها في الوقت ذاته ساهمت في إبقاء معدّلات البطالة عند حدود 9 بالمائة للمرة الأولى منذ أكثر من 3 سنوات، حينما وصلت هذه النسبة إلى مستوى قياسي عند 14 بالمئة.

استقرار مؤقّت

أدّت الاجراءات التي اتّخذتها حكومة شيمشك خلال الفترة الأخيرة إلى ابطاء تدهور قيمة الليرة، التي شهدت استقراراً نسبياً، مقارنة مع الصدمات المتلاحقة في عهد الحكومة السابقة، ما أحيى آمال الأتراك، خصوصاً فئة الموظفين ومحدودي الدخل، بتحسّن أوضاعهم المعيشية.

ويعزو أزغور هذا الاستقرار النسبي للعملة المحلّية في نهاية العام الماضي إلى “استثمارات المحافظ، والاكتتابات العامة المكثفة في سوق الأوراق المالية، وتحويل مدّخرات المواطنين إلى أسهم بدلاً من الدولار”، مؤكّداً على غياب السياسات الجادة للحد من تدهور الليرة.

وفي الأيام الأولى من عام 2018، بلغ سعر بيع الدولار حوالي 3.7 ليرات تركية، ولكن على مدى السنوات الخمس الماضية، فقدت الليرة 80 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار. وقام البنك المركزي، الذي اتبع سياسة الفائدة المنخفضة منذ أيلول (سبتمبر) 2021، برفع أسعار الفائدة لأول مرة منذ 27 شهراً في حزيران (يونيو) 2023، حيث رفع سعر الفائدة من 8.5% إلى 15% بزيادة قدرها 650 نقطة أساس.

وقبل حلول العام الجديد بثلاثة أيام، شهد البنك المركزي التركي أعلى مبلغ احتياطي إجمالي على الإطلاق بقيمة 145.5 مليار دولار في 28 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ليتراجع إجمالي الاحتياطيات بعد ذلك لمدة أسبوعين متتاليين، وصولاً إلى مبلع 139.6 مليار دولار، حسب البيانات الرسمية، التي تشير إلى قيام المركزي بتسييل نحو 6 مليارات دولار خلال الأسبوعين الماضيين.

ومع ذلك، لم ينجح المركزي التركي، بقيادة حفيظة غايا أركان، التي تسلّمت مهمّتها بالتزامن مع وصول شيمشيك، في الحفاظ على قيمة الليرة التركية دون انخفاض.

وقال عضو هيئة التدريس بجامعة مرمرة التركية، خيري كوزان أوغلو، في منشور له عبر حسابه الشخصي بموقع “إكس” (تويتر سابقاً): “تم الحفاظ على الدولار عند سقف 20 ليرة تركية قبل الانتخابات. وقد أعطى هذا مظهراً من الاستقرار في الاقتصاد، وأبقى التضخم تحت السيطرة. لكن في الوقت نفسه، تم كشط قاع الاحتياطيات”.

وأعلن البنك المركزي التركي أن العجز في الحساب الجاري في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت بلغ 2.72 مليار دولار، وهو أعلى بكثير من التوقعات البالغة 1.6 مليار دولار. كما بلغ العجز في ميزان المدفوعات في التجارة الخارجية 4.412 مليون دولار.

ويشرح أوزغور أن “القضية التي يخشاها أردوغان أكثر من غيرها هي البطالة. وحتى الآن، لم يحدث انفجار في معدلات البطالة كما رأينا في الأزمات الماضية. ومع ذلك، فإن مشكلة بطالة خطيرة قد تنشأ مستقبلا نتيجة تضافر عدد من العوامل، وعلى رأسها زيادة الحد الأدنى للأجور، وزيادة التكاليف بسبب أسعار الصرف، والمنافسة في قطّاع المنسوجات من قبل دول مثل مصر وغيرها، والقرارات الأميركية الخاصة بمكافحة الإغراق فيما يخصّ قطاع صناعة الحديد والصلب التي قد تدفع بمنتجي الصلب في تركيا إلى التوّجه للانتاج في بلدان أخرى نتيجة انخفاض الصادرات التركية، جنباً إلى جنب مع انكماش الإنتاج الصناعي”.

الاستثمارات والعمالة ستحددان وضع الاقتصاد

وتعليقاً على تبخّر 6 ملايين دولار من الاحتياطي الأجنبي خلال فترة اسبوعين، يرى كوزان أوغلو أنه مع اقتراب الانتخابات المحلّية في نهاية آذار (مارس) المقبل، يتم تكرار السياسات السابقة، مدّعياً أن الحكومة التركية تريد خوض الانتخابات بسعر صرف 32-33 ليرة تركية مقابل الدولار الواحد.

بالمقابل، يشير أوزغور أنه “علينا أيضاً أن ننظر إلى التطورات العالمية. لقد انتهت عملية رفع أسعار الفائدة في الغرب، ومن المتوقّع أن تتجه المصارف الغربية إلى تخفيض أسعار الفائدة. قد يكون ذلك في صالح تركيا. على الرغم من أن الحكومة تزيد حالياً من نسب الفوائد بسبب الانتخابات، إلا أنها لا تطبق سياسات مالية صارمة ازاء زيادة الأجور وما إلى ذلك”.

ومن جهته، عدّل بنك الاستثمار “جي بي مورغان” من توقّعاته السابقة لقيمة الليرة التركية، من 34 إلى 36 ليرة للدولار حتى نهاية عام 2024.

وعن التوقّعات حول استمرار السياسات القديمة إلى حين انتهاء الانتخابات المحلّية، يرى أوزغور أن “التأثير الأساسي في التضخم سيبدأ في النصف الثاني من العام، وحقيقة أن هناك تخفيضات في أسعار الفائدة في العالم وزيادة أسعار الفائدة من قبل شيمشك، ستؤدي إلى وصول تركيا إلى سعر فائدة إيجابي يزيد من تدفّق الموارد الخارجية. وتستثمر الحكومة الآن بشكل كامل في هذا الأمر”.

ويشير خبراء الاقتصاد الأتراك إلى أن “اقتصاد البلاد لا يزال يفتقد لأسس متينة، وهو يتطور على أساس المضاربة، استنادا إلى تدفقات الأموال الساخنة واتجاه أموال المضاربة”.

وأعلن معهد الإحصاء التركي (TUIK) أن معدل التضخم لعام 2023 بلغ 65 بالمئة، فيما بلغ وفق قياس مجموعة أبحاث التضخم المستقلة (ENAG)، 127.21 بالمئة. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قام البنك المركزي التركي بتحديث توقّعاته للتضخم في نهاية عام 2024 إلى 36 بالمئة، ليصل إلى ذروته عند 70 بالمئة في (أيار) مايو 2024.

وفي البرنامج الاقتصادي على المدى المتوسط الذي أُعلنته الحكومة في أيلول (سبتمبر) الماضي، قُدر متوسط قيم سعر صرف الدولار بـ 36.8 ليرة تركية في عام 2024، و43.9 ليرة تركية في عام 2025، و47.8 ليرة تركية في عام 2026.

ويؤكّد أوزغرو أن “الأداة الاقتصادية الوحيدة في يد الحكومة التركية حالياً هي زيادة أسعار الفائدة. وهي بالفعل قامت بذلك”.

ويختم أوزغور حديثه مع “النهار العربي” بالقول إن “هناك شيئين سيحددان المسار المستقبلي للاقتصاد: تدفّق الأموال الساخنة ووضع العمالة. وهما مسألتان غير متوافقتين. المصدّرون يريدون الآن أن يرتفع سعر الصرف أكثر، ويواجه الصناعيون مشاكل ائتمانية وجدولات قضائية للديون. هذه التطورات ستحدد السياسات الاقتصادية”.